لقد واجه معمر القذافي مصيره، لكن هل سينعم الليبيون، بعد إطاحة نظامه، بالحرية والاستقرار اللذين يتوقون إليهما؟
الدرس الذي نتعلّمه من الثورات المتنقّلة التي انطلقت بعدما قام بائع خضار تونسي بحرق نفسه، هو أنه بإمكان أفراد من أديان وقناعات سياسية متنوّعة ومن طبقات اجتماعية واقتصادية مختلفة، أن يتّحدوا معاً ضد شخصية عامة تكون محطاً لكرههم، لكن بعد تحقيق هدفهم المشترك، غالباً ما ينقلبون بعضهم على بعض.
إنها ظاهرة طبيعية لأنه بعد إزاحة موضوع الكره الأساسي من الصورة وانتهاء الأجواء الاحتفالية، يعود الناس للتمسّك بولاءاتهم السابقة أو تحالفاتهم المذهبية أو مصالحهم الخاصة. الحقيقة هي أن إطاحة الرجل القوي من السلطة، مهما بلغت همجيّته، لا تعني بالضرورة التغيير نحو الأفضل، وما حصل في العراق خير دليل على ذلك.
لم تكن قبضة صدام حسين الحديدية تتقبّل أي شكل من أشكال المعارضة، لكن في عهده، كانت البلاد ككل تنعم بالأمن والاستقرار وكان أبناؤها يتقاسمون شعوراً بالاعتزاز الوطني. وعلى الرغم من انسحاب كل القوات الأمريكية تقريباً من العراق، مع العلم بأن هذا ما أرادته غالبية العراقيين بحسب الاستطلاعات، ازدادت الهجمات العرقية والطائفية بدلاً من أن تنحسر.
وفي مصر، تتوسّع الانقسامات حيث يخشى المسيحيون الأقباط وأنصار الحداثة صعود نفوذ التنظيمات الإسلامية التي تسيطر حالياً على مجلس الشعب. وفي اليمن أيضاً، استقال الرئيس علي عبدالله صالح تحت تأثير الضغوط الشعبية، لكن البلاد لا تزال ترزح تحت وطأة أعمال العنف التي يرتكبها الانفصاليون في الجنوب، والصدامات القبلية في الشمال، ونشاطات مقاتلي القاعدة.
أما في ليبيا، فقد اعتُبِرت الثورة حتى وقت غير بعيد نسبياً، بأنها ناجحة بمختلف المقاييس تقريباً. قلّة تفجّعت على القذافي، ذلك الديكتاتور السلطوي والغريب الأطوار الذي تخفّى خلف قناع أبوي. يتعاطف العالم بشدّة مع المعارضة الليبية، وللمرّة الأولى، توحّدت الجامعة العربية ومجلس الأمن الدولي في دعم قيام حلف شمال الأطلسي (الناتو) بفرض منطقة لحظر الطيران فوق ليبيا.
بعد رحيل القذافي الذي نصّب نفسه "ملك ملوك أفريقيا"، ومعه سياساته الاقتصادية البالية، باتت السماء هي الحدود، أو هكذا يُفترَض أن تكون. تملك ليبيا التي لا يتجاوز عدد سكّانها 6.4 ملايين نسمة، عاشر أكبر احتياطي نفطي مثبَت في العالم. وقد استعادت الصادرات النفطية الليبية عافيتها بسرعة أكبر من المتوقّع. نظرياً، تتمتّع البلاد بثروة كافية كي تحوّل الصحراء رياضاً، وتشيّد بنى تحتية متفوِّقة عالمياً، وتوفّر معايير ممتازة لجميع مواطنيها في التعليم والمنشآت الطبية والسكن.
على الرغم من أن الليبيين متحمّسون في شكل عام بشأن المستقبل ويتطلّعون إلى الانتخابات المزمع إجراؤها الصيف المقبل، إلا أن هناك استياء متزايداً من المجلس الوطني الانتقالي لعجزه عن كبح عشرات الميليشيات التي رفضت تسليم أسلحتها التي استخدمتها لمحاربة أنصار القذافي. في الحقيقة، لا يزال الثوّار السابقون من الزنتان يسيطرون على مطار طرابلس الدولي، فيما وضعت مجموعات مسلّحة أخرى يدها على الموانئ، والحدود الجنوبية هي الآن في عهدة القبائل. تتولّى ألوية غير شرعية في مصراتة والزنتان وغريان إدارة السجون وتنفّذ توقيفات غير قانونية وتمارس التعذيب بحق أنصار النظام السابقين. تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن هناك أكثر من 6000 معتقل غير قانوني.
لقد أخذ المسلّحون على عاتقهم معاقبة الأشخاص الذين كانوا يدعمون القذافي، مما يحول دون تحقيق المصالحة التي تشكّل حاجة ماسّة للبلاد. في فبراير الماضي، اختطف عناصر في ألوية السواحلي صحافيَّين بريطانيين من ويلز، واتّهموهما بأنهما جاسوسان إسرائيليان بعدما ظنّوا خطأً أن الكلمات المكتوبة باللغة الويلزية على صناديق الإمدادات الطبية التابعة لهما هي كلمات عبرية.
كما هاجم مسلّحون آلاف الليبيين الذين كانوا يتظاهرون في بنغازي دعماً للاستقلال الذاتي للإقليم الشرقي، واقتحموا مبنى إحدى المحطات التلفزيونية لمنعها من بثّ الاحتجاجات. علاوةً على ذلك، أطلّ المتشدّدون الدينيون برؤوسهم وقاموا بتحطيم مقابر الجنود البريطانيين الذين لقوا حتفهم خلال حرب الكومنولث البريطانية على الرغم من تأدية المملكة المتحدة دوراً أساسياً في تحرير بلادهم.
وفي السادس من مارس، أعلن الإقليم الشرقي الذي كان يُعرَف سابقاً ببرقة شبه استقلال ذاتي عن الحكومة المركزية، الأمر الذي ينذر ربما بتقسيم ليبيا. وأعلن رئيس المجلس الوطني الانتقالي أن الحكومة الانتقالية سوف تقاتل إذا دعت الحاجة حفاظاً على وحدة ليبيا.
ليس الإقليم الشرقي الجزء الوحيد الذي يسعى إلى الاستقلال عن بقية البلاد. فقبيلة الطوارئ التي يُطلَق عليها لقب "رجال الصحراء الزرق"، والتي دفع لها القذافي مالاً لمساعدته على سحق التمرّد، تشتكي الآن من تعرّضها للتمييز وتطالب بدولة لها في الصحراء بعدما طُرِدَت من بلدة غدامس على الحدود الجنوبية بين ليبيا والجزائر وتونس.
لكن في الأيام الأولى بعد تحرير ليبيا، هتف الناس للمقاتلين في المعارضة وقوّات الناتو ورأوا فيهم أبطالاً. إلا أن الأمم المتحدة نشرت بعد ذلك تقريراً انتقدت فيه الناتو لعدم إجرائه تحقيقات كافية في مقتل مدنيين جرّاء الغارات الجوية التي شنّها. ويتّهم التقرير أيضاً القوات الموالية للقذافي بارتكاب جرائم حرب ويوجّه إصبع الاتهام إلى الميليشيات المناهضة للقذافي "لارتكابها انتهاكات فاضحة" و"خروقات لقانون الحقوق الدولي لا تزال تتواصل حتى الآن".
ومن الجرائم التي سلّط التقرير الضوء عليها شنّ الميليشيات هجوماً على مخيّم للاجئين في طرابلس يضم أفراداً من مدينة تاورغاء مسؤولين عن مقتل خمسة أشخاص بينهم ثلاثة أولاد. فقد اعتُبِر أبناء تاورغاء إلى جانب مجتمعات أخرى تقع جنوب الصحراء بأنهم كانوا متواطئين مع القذافي، وبسبب العداوة ضدّهم في بلداتهم، اضطرّوا إلى مغادرتها وتحمّل ظروف معيشية شديدة القسوة. والعمّال الأفارقة مستهدَفون أيضاً على يد أشخاص يسعون إلى الانتقام من المرتزقة الذين عملوا لحساب القذافي.
يتعرّض المجلس الوطني الانتقالي للضغوط من الليبيين الذين بدأ صبرهم ينفذ ويتوقون إلى رؤية مطالبهم تتحقّق. في يناير الماضي، اقتحم محتجّون غاضبون مقرّ المجلس في بنغازي مطالبين بطرد كل المسؤولين الذين كانوا ينتمون إلى نظام القذافي، واشتكوا أيضاً من افتقار المجلس إلى الشفافية في الإنفاق. وهناك أيضاً دعوات لوضع دستور جديد بالاستناد إلى الشريعة. يعتبر بعض المراقبين أن الأحزاب الإسلامية، ومنها "حزب الحرية والبناء" الذي شكّله الإخوان المسلمون مؤخراً، ستحقّق، كما في مصر وتونس، انتصارات كاسحة في الانتخابات مما سيؤدّي إلى استقطاب حاد في صفوف المواطنين.
ويقول آخرون إن المجلس الوطني الانتقالي يفعل كل ما بوسعه نظراً إلى غياب المؤسسات مثل النظام القضائي الفاعل وكذلك عدم وجود شرطة وجيش يتمتّع بالعدد الكافي من العناصر. يحاول المجلس استقطاب الميليشيات إلى الأجهزة الأمنية، وقد أرسل ثوّاراً سابقين إلى الأردن وتركيا للتدرّب والانضمام لاحقاً إلى الشرطة، وقد التحق نحو 5000 عنصر من الميليشيات بالجيش الليبي الذي يجري بناؤه حديثاً.
لا نعرف بعد ما يحمله المستقبل. لكن الأكيد هو أن الطريق نحو ليبيا جديدة وأفضل حالاً بعد القذافي طويل وحافل بالمخاطر. وحدهم الليبيون، ولا أحد سواهم، قادرون على تذليل العقبات والصعوبات.