يتوقّع نقاش يدور حالياً بين الاختصاصيين والأكاديميين في الشرق الأوسط ينذر بسقوط حكّام الخليج، بفعل تداعيات ما يُسمّى بالربيع العربي الذي تبيّن أنه ليس ربيعاً على الإطلاق. ويتصدّر قائمة تجّار الشؤم الكاتب والأستاذ المعاون السابق في جامعة زايد، كريستوفر دايفدسون الذي أصدر مؤخراً نسخة منقّحة ومحدّثة من كتابه المثير للجدل بعنوان "ما بعد الشيوخ: الانهيار المقبل للأنظمة الملكية الخليجية’’ (After the Sheikhs: The Coming Collapse of the Gulf Monarchies). توقُّعه بأن القيادات ستتهاوى مثل منزل من الورق هو مجرّد تفكير بالتمنّي، كما تقول ليندا س. هيرد..
خلال النصف الأول من القرن الماضي، توقّع المعلّقون السياسيون أن تسقط دول الخليج في قبضة الشيوعية، لكن ذلك لم يحصل. وقبل أكثر من 40 عاماً، أثار كتاب "الجزيرة العربية بلا سلاطين’’ (Arabia without Sultans) للبروفسور فريد هاليداي، ضجّة كبيرة، وقد ظهر على غلافه رسمٌ كاريكاتوري لشيخ داخل برميل نفط. واعتبر الكتاب أن الشيوخ في خطر بسبب الصراع الاجتماعي الذي يعتمل في الأفق، لكن هذا الصراع لم يقع حتى الآن. فعلى الرغم من أن هاليداي كان يتردّد باستمرار إلى المنطقة، فشل في قراءة المؤشّرات وتوقّع الأحداث، والأمر نفسه يتكرّر الآن مع دايفدسون وأمثاله ممّن يفكّرون بالطريقة نفسها، بما في ذلك "مشروع العلوم السياسية الشرق أوسطية’’.
اعتبر دايفدسون في فرضيته الأولى في العام 2009 أنه لن يعود هناك وجود للأنظمة الملكية الخليجية في غضون عقد من الزمن، وقد تبيّن أنه على خطأ، وفي النسخة الجديدة المنقَّحة، يُصرّ على تحديد موعد جديد يتراوح من عامَين إلى خمسة أعوام. وينطلق في محاججته هذه من نقطتَين. تستند النقطة الأولى إلى ما يُسمّيه "الضغوط الداخلية’’ مثل أعداد السكّان التي تزداد بسرعة، والذين يتفاعلون عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي، وتراجع العائدات النفطية ما يؤثّر في المنافع التي تؤمّنها الدولة للمواطنين مثل المنشآت الطبية والتعليمية المجانية.
أما النقطة الثانية فتتمحور حول "تأثير العدوى’’ من الموجة الثورية التي تهزّ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فضلاً عن العداء الإيراني المتزايد تجاه دول الخليج، مع الاستشهاد بالاضطرابات في البحرين. ويذهب دانيال بومبرغ، المدير المشارك في قسم "دراسات الديمقراطية والحاكمية’’ في جامعة جورجتاون، خطوة إضافية إلى الإمام في كتابته عن هذا الموضوع لـ"مشروع العلوم السياسية الشرق أوسطية’’. فهو يصف "الأنظمة السلطوية العربية’’ بأنها "تبتزّ مواطنيها في مقابل حمايتهم، فتقدّم لهم ملاذاً من الإلتباسات المرتبطة بالعملية الديمقراطية المفتوحة’’ فيما تستخدم التهديد من الإسلاميين لبث الخوف في نفوسهم.
هذه الحجج ساقطة على مستويات عدّة. فهي تتجاهل الوحدة الثقافية، والولاءات القبلية المستمرة منذ مئات السنين، وتغضّ النظر أيضاً عن أن الخليجيين، وخلافاً لمواطني الجمهوريات العربية الذين يتعرّضون للقمع والحرمان من الحاجات الأساسية على أيدي الحكّام الديكتاتوريين، يتمتّعون بالحريات الشخصية وبمستويات معيشية متفوّقة يحسدهم عليها باقي العالم. لقد نجحت دول الخليج في تحقيق التزاوج بين الحداثة والمجتمعات المحافظة إلى حد كبير، وكذلك في التكيّف مع الحاجات المتغيِّرة لشعوبها. صحيح أن النفط موردٌ متناقِص، لكن الحكّام استثمروا بحكمة في التجارة والقطاع المصرفي والتصنيع والسياحة، والتي من شأنها أن تؤمّن استدامة النمو بعد وقت طويل من استخراج آخر قطرة من الذهب الأسود.
يعتقد شون ل يوم، الأستاذ المعاون في مادّة العلوم في جامعة تمبل، أن الأنظمة الملكية في الخليج ستستمرّ في المستقبل المنظور، لسبب أساسي هو أنها "تنسجم مع القيم الدينية والقبلية للثقافة العربية’’ و"تتمتّع بالتالي بالشرعية’’. يُصيب في كلامه هذا، لكنه يخطئ تماماً عندما يقول إن الأنظمة الملكية العربية استثنائية لأنها "تستفيد من الثروة الجيولوجية والموقع الجغرافي الذي أُنعِم به عليها، والاهتمام الاستراتيجي من القوى الخارجية’’. ربما يعبّر هذا الكلام عن شيء من الحقيقة، لكنه لا يشرح الأسباب التي تقف وراء الاحترام والتقدير اللذين كان حكّام الخليج يتمتّعون بهما - وكثرٌ بينهم يحظون بمحبّة أبوية - قبل اكتشاف النفط عندما كانت شعوبهم تعاني بغالبيتها من الفقر، وكانت بريطانيا والولايات المتحدة تتودّدان إلى شاه إيران.
يبدو لي أن الأكاديميين الغربيين يتجاهلون المعادلة العاطفية؛ فهم لا يفهمون الإعجاب الذي يكنّه معظم مواطني الخليج، بما في ذلك الشباب، لقادتهم، ومدى تقديرهم للاستمرارية التي يؤمّنونها. عندما يتّخذ حكّام الخليج قرارا بشأن سلوك مسار معيّن يعود بالفائدة على البلاد، ينجحون في تنفيذه على أكمل وجه، من دون مواجهة أية عراقيل من السياسات الحزبية، أو الحاجة إلى التملّق إلى قاعدتهم السياسية، أو التلهّي بالحملات التي تسبق الانتخابات.
يقع الغربيون تحت سحر فكرة الديمقراطية، ويجدون فيها دواء لكل الأمراض، حتى عندما تكون هذه الأمراض من نسج خيالهم. ليس هناك من مكان مثالي، لكن لا بد من القول بأن مواطني الخليج أفضل حالاً من معظم العرب الآخرين، لا بل معظم المواطنين في الديمقراطيات الغربية حيث يتفشّى الفقر إلى جانب التململ في صفوف الناس. العملية، وهي في هذه الحالة العملية الديمقراطية، أقل أهمية من النتيجة. بعبارة أخرى، مذاق الحلوى وقيمتها الغذائية أهم من طريقة صنعها.
على اية حال، الزعم بأن القادة الخليجيين سلطويون غير صحيح، لا سيما وأن الحكّام يعيرون آذاناً صاغية لشيوخ القبائل، وأرباب العائلات المرموقة، والزعماء الدينيين، فضلاً عن البرلمانات والمجالس الوطنية. في الواقع، الحكم في الخليج أكثر "ديمقراطية’’ بكثير منه في أماكن أخرى في المنطقة حيث حكَم الرؤساء وأفراد عائلاتهم بقبضة من حديد فيما امتلأت جيوبهم بالأموال.
وكذلك، يخطئ دايفدسون وسواه في الاعتقاد بأن عدوى الربيع العربي ستنتقل إلى الخليج. فما عدا استثناءات قليلة، هل ينظر أي مواطن خليجي بعين الحسد إلى تونس أو مصر "الديمقراطيتين’’ اللتين تتجهان نحو النظام الثيوقراطي؟ فيما أخطّ هذه السطور، تشهد مصر تظاهرات للمطالبة برحيل أول رئيس منتخب بصورة ديمقراطية في البلاد، ويشلّ إضراب عام تونس على خلفية اغتيال زعيم معارض. يبدو أن التحذيرات التي كان الرئيسان السابقان بن علي ومبارك يطلقانها من سيطرة الإسلاميين عقب رحيلهما، لم تكن مجرّد تهديدات فارغة للبقاء في منصبهما. لا شك في أن البحرين تعاني من مشاكل خطيرة ظهرت ربما إلى الواجهة خلال الربيع العربي، لكن الاضطرابات هناك لا تشكّل اندفاعة نحو الديمقراطية، بل إنها مؤامرة بتحريض إيراني تهدف إلى جعل الأقلية الشيعية تسيطر على السلطة. مصدر التهديد الحقيقي الوحيد للاستقرار في الخليج هو المتآمرون في الخارج والطوابير الخامسة التي تتعامل معها الأجهزة الأمنية بالطريقة اللازمة.
ختاماً، أستشهد بالكلام الحكيم الذي كتبه الدكتور عبد الخالق عبدالله، أستاذ العلوم الساسية، في صحيفة "جلف نيوز’’: "ما يفشل [كريستوفر دايفدسون] في رؤيته هو أن قوى البقاء والاستمرار أقوى بكثير من قوى التغيير وحتى الاصلاح في هذا الجزء من العالم العربي. لا تزال الحكمة السياسية السائدة هنا تعتبر أن الأسلوب القديم هو الأفضل’’.