فيسك، أشهر مراسل حربي في العالم



منذ أن تعاطف روبرت فيسك، مراسل صحيفة إندبندنت في الشرق الأوسط، مع الأفغان الغاضبين الذين ضربوه على رأسه بعد أن تعرضت قريتهم للقصف، أصبح الرجل رمزاً للحركة المناوئة للحرب. يومها قال فيسك إن حادثة الضرب كانت تعبيراً رمزياً عن "الكراهية والحنق والنفاق في هذه الحرب القذرة."

وفيسك، بمرور السنين، أصبح خبيراً في الحروب القذرة. فقد غطى كمراسل ستة من هذه الحروب على الأقل وعاش ليتحدث إلينا عنها. هو اليوم أشهر المراسلين الصحفيين ومؤلف ناجح ومحاضر لامع. فهل أصبح فيسك مستعداً بعد هذا النجاح لأن يترك دفتره وقلمه ليحقق حلمه في التقاعد بأيرلندا؟ ليندا هيرد التقته مؤخراً في القاهرة حيث كان هناك لترويج كتابه الأخير "الحرب العالمية من أجل المدنية" وتوجهت إليه بالسؤال.

كثيراً ما تشوقت للقاء روبرت فيسك الذي سبق وأن وصفته صحيفة نيويورك تايمز بأنه "أشهر مراسل في بريطانيا." أردت أن أعرف أكثر على هذا المراسل المتهور الباحث عن الأخبار والذي يتحدث عن كراهيته للعنف من أي نوع كان الأمر الذي يجعله يمضي إلى أكثر بقاع العالم خطراً حيث عليه أن يهرب من الصواريخ والرصاص ويدوس على الجثث.

غير أن فضولي تراجع قليلاً حين قابلته وجهاً لوجه أخيراً في مكتبة ديوان الفاخرة في القاهرة، رغم أني كنت قد قابلته لبرهة في اليوم السابق بعد أن ألقى محاضرة على مدى ساعتين أمام جمهوره المصري. كانوا ينصتون بإمعان لكل كلمة يقولها. كل هاتف محمول في القاعة كان قد أقفل بكل طواعية ولم تكن تجد أحداً قد أخذته غفوة.

إذاً لماذا تقوم بذلك؟ سألته. هل بينك وبين الشرق الأوسط علاقة حب من نوع ما؟

أجاب بلا تردد: "لا. أنا كره الصحفيين الذين يقولون إن لهم علاقة حب مع الشرق الأوسط. [آه لا! هذه أنا بين من يعنيهم بكلماته]- الأمر يتعلق بالصحافة فقط."

وسريعاً ما أصبح جلياً لي أن روبرت فيسك يأكل وينام ويتنفس مع الصحافة. وهو يتطلع إلى اليوم الذي يتقاعد فيه ويستقر في أيرلندا غير أنه يعترف بأن مكالمة هاتفية من بيروت تقول له إن شيئاً كبيراً يحدث كفيلة بأن تجعله يهرع إلى المطار.

سألته عما إذا كان يأخذ إجازات فبدا محتاراً لوهلة كما لو أنني أتحدث عن شيء من المريخ. غير أنه تذكر بعدها "إجازة" قضاها في البرازيل، قبل أن تنقطع فجأة حينما وجد نفسه دون قصد في مواجهة قصة خبرية عاجلة.

كانت أولى علامات حياة فيسك المهنية قد لاحت وهو في سن 12 عاماً. حينها أتى الإلهام لطموحه الكبير عبر فيلم "المراسل الخارجي" للمخرج الشهير ألفريد هيتشكوك، الذي كان يتحدث عن مراسل أمريكي شاب أرسلته نيويورك تايمز إلى أوروبا لتغطية الحرب العالمية الثانية.

يقول فيسك: "يذهب المراسل إلى أوروبا وهناك يشهد اغتيال أمير هولندي ويطارده جهاز الغستابو في هولندا ويقبض على أكبر جاسوس ألماني في لندن وتطلق عليه سفينة حربية ألمانية نيرانها في الأطلسي ويعيش ليجمع ويصنف خبطاته الصحفية ويفوز بأجمل امرأة في الفيلم كله. حين كنت في سن 12 رأيت أن هذه مهنة مناسبة جداً لي."

لم يقل لي فيسك إن كان قد حظي بالمرأة الجميلة من بين كل ذلك، لكن الواضح هو أن لديه من المغامرات ما يكفي لملئ صفحات مجموعة من أكثر الروايات مبيعاً أو أنجح الأفلام السينمائية.

أول مهمة قام بها في الشرق الأوسط كانت وهو في عمر 29 عاماً حيث قطع تغطيته للثورة في البرتغال عام 1974 لصالح صحيفة تايمز اللندنية "قبل أن يدمر روبرت مردوخ سمعتها حين اشتراها،" كما يقول.

و ما يزال فيسك يحتفظ بتلك الرسالة من محرر الشؤون الخارجية في صحيفة تايمز حيث أخبره فيها أن مراسلة الصحيفة في بيروت قد تزوجت للتو من ملياردير ألماني وأنها لا تريد أن تبدأ حياتها الزوجية وسط الحروب. وحملت الرسالة وعداً بأنها "ستكون مغامرة عظيمة فيها الكثير من أشعة الشمس."

طوال سنين عديدة اعتقد فيسك أن عمل المراسل الخارجي الجيد هو أن "يكون أول شاهد على الحدث في التاريخ، الإنسان المحايد الوحيد يف الميدان." غير أن رأيه هذا تغير بعد محادثة مع الكاتبة والصحفية الإسرائيلية أميرة هاس التي قالت له:

"إن دورنا هو نراقب مراكز القوة، أن نتحدى السلطة، وخصوصاً عندما يذهبون إلى الحرب ونحن نعلم أنهم ذاهبون ليقتلوا الناس."

يقول فيسك: "هذا أفضل تعريف سمعته في حياتي لعمل المراسل الخارجي."


فيسك معجب أيضاً بسيمور هيرش، المحقق الصحفي المخضرم في مجلة نيويوركر الذي كشف مذبحة ماي لاي وقصص سجن أبو غريب.

واضح أن هيرش قد توقع غزو العراق قبلنا جميعاً، بمن فيهم روبرت فيسك. ولهذا، حين يتكلم هيرش الآن فإن فيسك يصغي.

وفي المقابل تجده منتقداً لاذعاً لتوماس فريدمان، الكاتب المختص في الشؤون الخارجية في صحيفة نيويورك تايمز. ويقول: "سمعت أن توماس فريدمان يطلب 65 ألف دولار في الساعة الآن مقابل محاضراته. أنا لا أقبض شيئاً على محاضراتي، غير أني مستعد لأدفع 65 ألف دولار مقابل ألا يجبرني أحد على سماع فريدمان."

وعلى قائمة الصحفيين غير المحببين لفيسك يأتي ألان ديرشوفيتز الذي يدافع بلا انقطاع عن السياسات الإسرائيلية والكولونيل رالف بيترز وهو من بين أشد المدافعين عن غزو العراق.
وينتقد فيسك بشدة المراسلين الذين يرسلون بتقاريرهم من العراق وكأنهم في موقع الحدث مع أبداً لا يغادرون المنطقة الخضراء المحصنة خوفاً من التعرض للاختطاف أو القتل. ورغم أنه يتفهم مخاوفهم غير أنه يعتقد بضرورة أن يخبروا قراءهم بالحقيقة بدلاً من أن يضعوا أسمائهم على قصص خبرية صنعها زملاؤهم العراقيون.

ويعترف فيسك دون مواربة بأن الوضع في العراق قد أصبح بالغ السوء لدرجة أن تغطيته أصبحت كما يسميها "تغطية الفئران،" انطلاقة سريعة نحو الميدان وبضع دقائق من الحديث مع الشهود ثم العودة إلى السيارة والتي عادة ما تكون قد اجتذبت مسبقاً حشداً من مكفهري الوجوه.
وسيعود فيسك إلى العراق قريباً. وخياره الوحيد، كما يقول، هو أن عليه دوماً أن يختار مهماته.

فيسك مراسل لديه رأيه الخاص دوماً، وهو غالباً ما يكون مثيراً للجدل، ولهذا ينقسم من يعرفوه بين محب وكاره له، لكن لا أحد يستطيع أن يتجاهله. والإنترنت تحتشد بالمديح لفيسك والتقريع الشديد أيضاً، وبعضها لا يمكن نشره. غير أنه يبدو غير مدرك للغط الذي يثيره في الفضاء الإلكتروني، ذلك أنه كثيراً ما يتحاشى الإنترنت.

وعلى سبيل المثال، حين قلت له إنه كان السبب وراء ظهور كلمة جديدة في اللغة الإنكليزية، Fisking، وتعني حسب صحيفة أوبزرفر "الهجوم العنيف على طرح ما والرمي بحطامه إلى أركان الإنترنت الأربعة" لم يكن معجباً بالأمر. بل إنه وصف كلمة عالم المدونات مثل هذه بأنها "صبيانية."

ليس هناك ما يمكن تسميته بالصبياني بخصوص روبرت فيسك، رغم أنه ليس أيضاً ذلك النوع النمطي من المراسل الحربي ذي الكلام المقتضب والقوي. بل هو رجل جذاب ودمث ويسهل جداً الحديث إليه.


أحسست وأنا أتحدث إلى فيسك بالكثير من العاطفة في كلامه. فهو يكثر من ذكر والده الذي كان جندياً في الحرب العالمية الأولى والذي استحوذت على مشاعره ميدالية نالها عن مشاركته في الحرب. على ظهر الميدالية نقشت العبارة التالية: "الحرب العالمية من أجل المدنية"، وهي العبارة التي اختارها فيسك لتكون العنوان "الهازل" لكتابه الجديد.

في الشهور التي سبقت انتهاء الحرب العالمية الأولى، قام المنتصرون وخصوصاً بريطانيا وفرنسا بتقسيم الشرق الأوسط بحدود جديدة كما يقول، ويضيف: "لقد أمضيت حياتي المهنية كلها وأنا أشاهد الناس تحترق داخل هذه الحدود."

فيسك يسكن في لبنان لأكثر من ثلاثين عاماً وفي مهماته كثيراً ما يشير إلى سائقه، عابد، وشقته المطلة على شاطئ المتوسط. "كل يوم أصحو في بيروت لأرى أشجار النخيل تتمايل على الكورنيش. أرى البحر فأسأل نفسي عن المكان الذي سيحدث فيه الانفجار اليوم؟"

آراؤه حول لبنان وفلسطين والعراق مدهشة لكنها معقدة وغامضة بحيث يتعذر الخوض فيها الآن. ولهذا إن أراد أحدكم الخوض عميقاً في أفكار في هذا المراسل الحربي القديم يمكنه أن يقرأ كتابه.

يقول إن العمل على هذا الكتاب كان شيئاً يسبب الكآبة. "فهي قصة الشرق الأوسط والعذاب والخيانة والغزو والديكتاتورية والغياب التام للحريات الشخصية وحقوق الإنسان."

غير أن هناك لحظة مرحة رغم ذلك، وكانت في بداية الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات. في ذلك الوقت كان فيسك في مدينة البصرة مع جون سنو، المذيع التلفزيوني البريطاني. يومها سمع سنو أن هناك سفينة بريطانية كانت عالقة في شط العرب فيما الجيشان العراقي والإيراني يتبادلان النيران فوقها.

ولذلك تحدث فيسك وسنو مع ضابط عراقي لمساعدتهم في إنقاذ طاقم السفينة. وفعلاً عبر هو ورجاله عن استعدادهم للمحاولة. وهكذا سبح سنو والجنود العراقيون إلى السفينة وتركوا فيسك ليسحب قارب النجاة مع جنود آخرين إلى الشاطئ.

وكما هي العادة كان معظم البحارة قد أنوا من دبي بعد أن اشتروا منها تلفزيونات ملونة من السوق الحرة، والتي أصروا على تحميلها على قارب النجاة. وقبل أن يترجلة كل منهم من القارب كانوا أولاً يسلمون التلفزيون الملون إلى فيسك. ولكم أن تتخيلوا مفاجأتهم وهم يرون فيسك يرمي بحمولته الثمينة إلى شط العرب فوراً.
يقول في كتابه: "وهكذا هذه هي نهاية الحكايات الجميلة."

يعترف فيسك بأن حياته كانت محاطة بالخطر غير أنه يقول لي بأن لو أستطاع أن يعود بالزمان إلى الوراء إلى الوقت الذي تسلم فيه رسالة محرر جريدة تايمز التي عرض فيها عليه الذهاب في مهمة للشرق الأوسط لما تردد أبداً في فعل الشيء نفسه ثانية.
 

 

 

 

أعلى


 

 | الصفحة الرئيسية | مجموعة الحبتور | فنادق متروبوليتان | دياموندليس لتأجير السيارات | مدرسة الإمارات الدولية
الملكية الفكرية 2003 محفوظة لمجموعة الحبتور
| جميع الحقوق محفوظة
لايجوز إعادة نشر المقالات والمقتطفات منها والترجمات بأي شكل من الأشكال من دون موافقة مجموعة الحبتور
الموقع من تصميم ومتابعة الهودج للإعلانات ـ دبي هاتف: 2293289