شجاعة الريس كارتر
بقلم/ ليندا هيرد

حينما وضع الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر كتابه الجديد "فلسطين، السلام وليس الفصل العنصري" لا بد وأنه كان يتوقع العاصفة الهوجاء التي سيثيرها. ومع ذلك مضى قدماً ونشر كتابه.

كان كارتر على علم بالهجمة الشرسة التي شنها اللوبي الموالي لإسرائيل على الأستاذين الجامعيين المحترمين ستيفن والت وجون ميرشيمر رداً على دراستهما التي وضعاها بعنوان "اللوبي الإسرائيلي."

كما كان يعرف ولا بد بأمر حملة التشهير القاسية وقرار الفصل من العمل ضد الأكاديمي البارز طوني جوت بعد مقالته التي نشرها في مجلو "نيويورك ريفيو أوف بوكس" ودعى فيها إلى تفكيك إسرائيل كدولة يهودية.

غير أن الزعيم السابق للعالم الحر، البالغ من العمر 82 عاماً والحائز على جائزة نوبل لم يخفف من عزمه على الوقوف في وجه ما هو متوقع ولا من استعداده لمواجهة الهجمة الشرسة التي لم يكن هناك شك في أنها ستستهدفه.

غير أن أحداً لم يكن يتوقع أبداً، دع عنك كارتر نفسه، أن يوصف بألفاظ من مثل "لص" و"منتحل" و"كذاب" و"جبان" و"معاد للسامية." ولم يتردد مارتن بيرتس في "نيو ريبابليك" في أن يقول بأن كارتر سيصبح معروفاً للأبد بأنه "عدو اليهود."

وقد اعترف كارتر خلال محاضرة له في إحدى الجامعات الأمريكية في 23 يناير الماضي بأنه أحس بإساءة شخصية من بعض التهم التي كيلت إليه.

وقال: "لقد خضت حملات انتخابية عديدة للمنافسة على عضوية مجلس الشيوخ وعلى منصب الحاكم والرئاسة، وتعرضت خلال هذه الحملات للكثير من التهم والإدانات من جانب خصومي السياسيين. غير أن هذه هي المرة الأولى التي يتهمني فيها أحدهم بأني كاذب أو متزمت أو معاد للسامية أو جبان أو منتحل."

كما قال في مقابلة صحفية له مؤخراً بأنه كان يعلم أن استخدام كلمتي "فلسطين" و "الفصل العنصري" في عنوان كتابه سيكون شيئاً استفزازياً. وأضاف "آمل أن العنوان سيستفز الناس لتقرأ الكتاب وتكتشف الحقائق."

بالنسبة لأي رئيس مهما كانت سمعته ناصعة البياض فإن نشر كتاب يعبر عن القدر نفسه من المساندة للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في جو تتمتع فيه إسرائيل بمرتبة القداسة يمكن أن يعتبر بالقدر نفسه عملاً أحمق أو مأثرة من مآثر الشجاعة.

ربما اعتقد كارتر أن سجله وتاريخه إلى جانب الاحترام الكبير الذي يعامل فيه الأمريكيون رؤساهم السابقين عادة سيعطيه الحصانة من التشهير القبيح على هذا النحو.

أو ربما يكون اعتقد أن رئيساً استطاع أن يتوسط في التوصل إلى معاهدة كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل لا يمكن أن يوصف بأنه معاد للسامية. ولو أن أحداً في الولايات المتحدة بمقدوره أن يلقي بهذه التهمة جزافاً كما هي دون أن يتعرض لأي شيء من تبعات ذلك لكن ذلك الإنسان هون كارتر نفسه. غير أن كارتر كان مخطئاً في اعتقاده هذا لو أنه فكر فيه فعلاً.

بالطبع كان لذلك أن يكون صحيحاً تماماً لو أن كارتر وجه انتقاداته هذه لأي بلد في العالم غير إسرائيل.


لو أن موضوع الكتاب كان، على سبيل المثال، العلاقات بين الهند وباكستان أو حتى رعونة إدارة بوش في العراق كان الجميع دافع عن كارتر وصفق له لاستخدامه حقه الدستوري في حرية الحديث.

وفي تلك الحالة كان كارتر سيحظى بالثناء لفتحه باب السجال العلني وتقديمه وجهة نظر مختلفة وجديدة ولكان بكل تأكيد آمناً من التعرض لأي هجوم شخصي عليه.

صحيح أن الجدل الذي أثاره الكتاب قد عرض كارتر لبعض الضرر في أوساط بعينها غير أنه في المقابل دفع بالكتاب إلى صلب الوعي الشعبي العام. إذ لم تمض سوى ثلاثة شهور على نشر "فلسطين، السلام وليس الفصل العنصري" حتى تقدم إلى المرتبة السادسة على قائمة نيويورك تايمز لأكثر الكتب مبيعاً.

كان التأكيد على الحاجة لحل يقوم على أساس الدولتين هو الدافع الرئيسي لكارتر لتأليف كتابه هذا.

وعن ذلك يقول: "إن كانت لدي رغبة عارمة تؤرق عقلي وقلبي طوال العقود الثلاثة الماضية فإن تلك الرغبة هي تحقيق السلام لإسرائيل وهذا ما لا يمكن أن يتحقق دون توفير العدالة وحقوق الإنسان لجيرانها الفلسطينيين."

صحيح أن كارتر كان مستعداً من الناحية النفسية لتقبل هجمة منتقديه واللوبي الإسرائيلي، غير أنه من المؤكد أن تعرض لجرح باستقالة 15 من أصدقائه كانوا كلهم مستشارين في مجلس إدارة مركز كارتر الذي أسسه منذ ربع قرن وأصبح معروفاً على المستوى الدولي بأعماله الخيرية.

وقد قال هؤلاء المستشارون في رسائل استقالاتهم الجارحة: "لم يعد بمقدورنا بعد الآن أن نشهد لموقفك بالاستقامة وعدم المهادنة. لم يعد هذا هو مركز كارتر الذي أسسه جيمي كارتر والذي كنا ندعمه ونحترمه."


وعلى سبيل المثال اتهم كينيث شتاين، وهو أحد الأعضاء المستقيلين، رئيسه وصديقه السابق بالتلاعب بالمعلومات وتغيير الحقائق وتضخيم الاستنتاجات. كما اتهم شتاين الكتاب بأنه تضمن "أخطاء شنيعة سواء بالزيادة أو بالنقصان."


إلى جانب كلمة "الفصل العنصري" في عنوان الكتاب، وهو ما يعيد إلى الأذهان تلك الأيام السوداء والقاسية التي عاشتها جنوب إفريقيا تحت حكم المتزمتين البيض، اعترض منتقدو كارتر بقسوة على قوله إن الفلسطينيين لا بد وأن يتوقفوا عن تفجير أنفسهم في الهجمات الانتحارية حالما يحصلون على دولتهم.

حين جوبه كارتر بذلك، اعتذر بشدة عن هذه العبارة وقال: "بالطبع هم يجب أن يتوقفوا عن ذلك الأسلوب الآن وفوراً. تلك الجملة صيغت بألوي غبي وغير مناسب أبداً." ومن المتوقع إسقاط هذه العبارة في الطبعات اللاحقة.

لا أحد من الشخصيات العامة يستطيع أن ينجو بفعلته إذا ما أشار ولو مجرد الإشارة إلى أن الفلسطينيين مدفوعون إلى الهجمات الانتحارية بفعل مأساتهم طويلة العهد.

ولنتذكر أن شيري زوجة كوني بلير اضطرت عام 2002 للتراجع عن كلامها حين قالت للحضور في مناسبة لجمع التبرعات للفلسطينيين بأنه "طالما أن الشبان الفلسطينيين لم يعد لديهم أمل سوى نسف أنفسهم فلن يحصل أي تقدم."

ولعل أحد أشرس منتقدي كارتر كان صديقه وزميله السابق ألان ديرشوفيتز، وهو محاضر في القانون وكاتب مؤيد لإسرائيل، سبق له أن أيد استخدام التعذيب وأبدى ازدراءه لمعاهدة جنيف ويمجد القوة العسكرية الإسرائيلية.

يقول ديرشوفيتز في مقدمة أحد أعمدته الغادرة: "أنا أحب جيمي كارتر. لقد عرفته منذ بدأ حملته الانتخابية الرئاسية أوائل 1976. وعملت جاهداً ليفوز في الانتخابات حينها كما أني كنت معجباً بأعمال كارتر في كل أنحاء العالم. ولهذا السبب أشعر بالحيرة من أن يكتب رجل محترم مثل كارتر كتاباً منحطاً مثل هذا عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي."

ودخلت نانسي بيلوسي زعيمة الأغلبية الديمقراطية في الكونغرس وهوارد دين المرشح الديمقراطي السابق للرئاسة على خط الهجمات ضد كارتر بإدانة إشارته إلى الاضطهاد والتمييز المخزيين" الذين يتعرض لهما الفلسطينيون على يد إسرائيل.


لا أعرف إن كان هذا نتيجة غضب حقيقي من جانب هذين اليساريين أم أنه مجرد محاولة لتملق الناخبين اليهود تمهيداً للانتخابات الرئاسية المقبلة، وإن كنت أرجح الاحتمال الثاني.

لا شك في أن هجوم كارتر على إسرائيل كان قاسياً. وهو يصف سياسة إسرائيل بأنها "نظام فصل عنصري حيث يعيش شعبان على أرض واحدة غير أنهما مفصولان عن بعضهما البعض فيما الهيمنة الكاملة للإسرائيليين ويخضعون الفلسطينيين بالقوة وبحرمانهم من حقوقهم الإنسانية الأساسية."

ويضيف قائلاً إن "سيطرة واستعمار إسرائيل المتواصلين للأرض الفلسطينية كانتا دوماً العقبتان الرئيسيتان أمام التوصل لاتفاق سلام الشامل في الأراضي المقدسة."

ولم يوفر كارتر في كتابه أيضاً اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، حيث يكتب قائلاً: "نتيجة للقوى السياسية والاقتصادية والدينية المؤثرة في الولايات المتحدة، نادراً ما تتعرض قرارات الحكومة الإسرائيلية للمناقشة أو الإدانة."

وعلى الرغم من أن أحداً لا يستطيع التشكيك في صحة وصواب العبارتين هاتين، لم يتورع منتقدو كارتر عن مهاجمتهما.

الإسرائيليون والفلسطينيون مفصولون عن بعضهما بجدار (الإسرائيليون يفضلون تسميته بالسور) يقطع الضفة الغربية إلى جانب معابر وطرقات مخصصة فقط للإسرائيليين. بل إن معظم الإسرائيليين يعترفون لك علناً وبأريحية بأنهم لم يسبق لهم حتى الحديث مع فلسطيني.

وكارتر محق في القول إن التوسع الاستيطاني وبناء المزيد من المستوطنات في انتهاك لقرارات مجلس الأمن الدولي حتى حينما كانت محادثات السلام جارية كان يمثل عقبة أمام التوصل لتسوية.

ومجرد تعرض كارتر لمثل هذا الهجوم الكبير عليه شخصياً إنما هو شهادة على صحة تأكيده بأن قرارات الحكومة الإسرائيلية نادراً ما تواجه بالإدانة نتيجة لقوة اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة.

وعلى سبيل المثال يستعد التحالف اليهودي الجمهوري لاستخدام كلمات كارتر هذه لإضعاف فرص الديمقراطيين الانتخابية الرئاسية.

وبالفعل بدأ التحالف اليهودي الجمهوري حملة كاسحة ضد الديمقراطيين في وسائل الإعلام باستخدام صور للرئيس السابق وهو يقول "لا أعتقد أن لإسرائيل أي حق أخلاقي أو قانوني في قصفها لبلد بأكمله هو لبنان."



لا شك في أنه يحسب للرئيس كارتر أنه ما يزال قادراً على الاحتفاظ بتلك الابتسامة الدافئة والشهيرة، وهو الذي من العادي له في مثل سنه ألا يعود يهتم بما يفكر به الناس. لا بد وأن معتقداته الدينية توفر له القوة إلى جانب شخصيته وقناعته الأخلاقية بأن أكثر ما في هذه الحياة أهمية هو فعل الشيء الصحيح.

البعض يقول إن الرئيس السابق قد فقد توازنه، غير أن المدقق في سجله يدرك أنه كان مثابراً دوماً في جهوده ليكون صانع سلام على الدوام. لقد كان أحد أوائل أعماله بعد تسلمه الرئاسة هو تخفيض عدد القوات الأمريكية المرابطة في كوريا الجنوبية وإخلاء تلك الدولة من الأسلحة النووية الأمريكية.


وفي 1978 عمل الرئيس كارتر بقوة على التوصل لاتفاقية سلام شاملة بين العرب والإسرائيليين ونجح في التوصل لاتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل في 1978.


كانت سياسة كارتر الخارجية تركز دوماً على حقوق الإنسان وكان قوياً لا يهادن في مواقفه المعارضة لطغاة من أمثال أوغستو بينوشيه في تشيلي وألفريد ستوسنر في باراغواي ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.


أما خطؤه الأكبر في نظر الأمريكيين فهو عدم تمكنه من وضع حد لمشكلة الرهائن الأمريكيين في طهران عام 1979. لقد كان عدم قدرته على التفاوض أو التوصل إلى حل للإفراج عن 52 رهينة أمريكية في السفارة الأمريكية في العاصمة الإيرانية هو الذي ساهم في خسارته للرئاسة أمام منافسه الرئيس السابق رونالد ريغان في انتخابات 1980.

ومنذ تركه للرئاسة، كبر كارتر في عيون الأمريكيين نتيجة جهوده المخلصة في حل الصراعات الدولية وصنع السلام ودعم حقوق الإنسان والديمقراطية وهي الجهود التي تضمنت مراقبة الانتخابات في الدول الأخرى.

حالياً تتوزع نشاطات كارتر بين إلقاء المحاضرات في جامعة إيموري وإلقاء الدروس في مدرسة الأحد في الكنيسة المحلية حيث يقيم. ويعرف عن الرجل نزاهته ورقة قلبه وحبه للمتع البسيطة مثل الاشتغال بالخشب.

إن على أولئك الذين هاجموه بلا رحمة في الشهور القليلة الماضية أن يعيدوا تحليل دوافعهم الحقيقية. إن كانوا صادقين فعليهم أن يسألوا أنفسهم عما إذا كان كارتر معادياً للسامية أم مجرد رجل بسيط تدفعه الرغبة في تصحيح المظالم.

إن تحديد موقفك من "فلسطين، سلام وليس فصل عنصري" فيما إذا كان وصف تاريخي مشوه أم دراسة علمية كتبها المؤلف بأطيب ما تكون النوايا لاستثارة ضمائرنا هو أم يتوقف على منظومة المعتقدات لديك.

غير أن الكتاب نجح على كل حال في إطلاق سجال صحي عما إذا كانت إسرائيل فعلاً دولة فصل عنصري وهو ما أدين بقوة في مؤتمر الأمم المتحدة حول العنصرية في مدينة دوربان بجنوب إفريقيا عام 2001 والذي انسحب منه الوفدان الأمريكي والإسرائيلي.

يجب أن يحسب للرئيس جيمي كارتر أنه أجبر الجني على الخروج من القمقم دون رجعة. وفقط حين تصبح الولايات المتحدة تنظر لإسرائيل وفق المعايير نفسها التي تنظر بها إلى أي دولة أخري في العالم يكون كارتر قد حقق هدفه الذي تمناه طوال حياته وهو السلام في الشرق الأوسط إلى جانب التكريم الذي يستحقه رجل شجاع مله.
 
 

 

 

 

أعلى


 

 | الصفحة الرئيسية | مجموعة الحبتور | فنادق متروبوليتان | دياموندليس لتأجير السيارات | مدرسة الإمارات الدولية
الملكية الفكرية 2003 محفوظة لمجموعة الحبتور
| جميع الحقوق محفوظة
لايجوز إعادة نشر المقالات والمقتطفات منها والترجمات بأي شكل من الأشكال من دون موافقة مجموعة الحبتور
الموقع من تصميم ومتابعة الهودج للإعلانات ـ دبي هاتف: 2293289