رسالة
الى ...
أ
حبائي في لبنان


كنا نحزم حقائبنا للعودة الى دبيّ ، لننهي رحلة الى لندن إستمرت لمدة أسبوع ، زاوجت بين طلب الراحة ، ومتابعة بعض الأعمال في العاصمة الإنجليزية.
العودة الى الديار تقتضي ولدواع تقنية ، توقف طائرتنا لإعادة التزود بالوقود في إحدى دول حوض البحر الإبيض المتوسط ؛
تداولنا في موضوع مكان التوقف التقني ، وكنا خمسة أشخاص ؛
إثنان من أهلي مواطنيّ دولة الإمارات العربية المتحدة ، وإثنان من أصدقائي في لبنان ، وأنا.

أين نتوقف لتزويد طائرتنا الصغيرة بالوقود ...
قفز الى ذهني بيروت ، وأعترف بأن هذه المدينة العريقة لا تغيب عن خاطري ، وقد أقامت هانئة سعيدة في وجداني لردح طويل من يفاعتي وسنين عمري ، حيث لا يزال عطر صنوبرها عابقاً في حقائب سفري وحيث لا تزال أمكنتها ومطارحها تتغلغل كالحلم في ثنايا عمري ؛

بيروت ، إذن ، والموضوع للنقاش بين رفاق الرحلة وبيني .


الزمان: 06/02/2007

بيروت تنؤ على وقع الإحترابات الداخلية ، وتئن تحت ضغط المداخلات ، وإصطراعات المحاور والقوى الدولية والإقليمية ، والمدينة تتشح بالسواد والأدخنة ، والمساجلات السياسية ، والتظاهرات ، والتظاهرات المضادة ، والبيانات المتناقضة والمتنافرة التي تكفي لإشعال حروب دولية وليس حروب شوارع فقط بين أبناء البلد الواحد والشعب الواحد .

المكان: مساحة النقاش بين الشوق والوجد ، بين الحزن والألم ، بين الرجاء واليأس ، بين جسور الخوف ، وجسور الجزع ؛

إتخذنا القرار بعدم التوقف في بيروت ، وليس مهماً أين توقفنا ، فهذا تفصيل لا أهمية له.
كانت نظراتنا تائهة ، تتطلع الى كل الأمكنة ، وتحاذر أن تلتقي ، كانت نظراتنا محكومة بتواطؤ ، يخشى كل منا أن يفشيه ، أو أن يجعله يأخذ منه ، أو أن يأخذ عليه ؛
كنا نتطلع الى الفراغ ، جزعاً من إنكشاف عشقنا المزمن لهذه المدينة القاسية على نفسها حتى محاولة الإنتحار ، والجائرة على رونقها حتى النفس ما قبل الأخير ، والممعنة في تدمير تاريخها عبر هذا السواد الذي يكلل هامتها وألوانها الزاهية ...

إذن لا مرور ، ولا توقف في بيروت – إستقرّ الرأي – وبين السحاب أخذتني الذاكرة الى بحمدون وضبابها الصباحي ، الى الأرز وفاريا وبياض ثلوج الجبال ، الى الفيحاء طرابلس ، الى بعلبك التاريخ ، الى صيدا وبحرها الكبير الذي شهد إنبعاث الحضارات ، الى الجنوب وشتلات التبغ وحقول القمح وسنابل الخير...

هل يجزع المرء من تاريخه ، هل يخشى من ذكرياته وملاعب طفولته ، هل يحجم عن إرتياد سنوات عمره ، هل ينسلخ المرء عن جيرانه ، وأهله ، وأصدقائه ، ورفاق الصيف ، وجيران الخير والطيبة ،
هل تقسو بلاد على أحبّتها ، كما يفعل لبنان ، هل يظلم شعب بلاده ، كما يفعل بعض اللبنانيين ...
ماذا أنتم فاعلين ، أتوجه إليكم ، بلا إستثناء ، وبلا إنحياز ، ألاّ إنحيازي لبلدكم ...
ماذا أنتم فاعلين بدرة الشرق ، بلؤلؤة البحر الأبيض ، بزمردة العالم العربي ...
ماذا تفعلون بعروس البحر ، بنسائم الربيع ، بإنسياب المياه ، بقناديل الجليد ، بالدفء المنبعث من مشاعركم ، بالكرم اللبناني الفطري ، بالعادات العربية الأصيلة ، بالضيافة ، وحسن الإستقبال ، بجداديل أطفال المدارس ، بالفرح الطالع من العيون.

ماذا فعلتم ، وقد كنتم فخرنا ، وعزّنا ، فرحنا ، وألقنا ، كتابنا ، وصحيفتنا ، مستشفانا ، وجامعاتنا ، وجهة أسفارنا ، واحتنا ، وراحتنا ، وأماننا .
كنا نحن أهل الخليج العربي ، نتكنى بالذكاء اللبناني ، وبعلوّ ثقافتكم ، وتنوع لغاتكم وعاداتكم المحببة ، بعقلانيتكم ، وإنفتاحكم ، بحبكم لبعضكم ، ولتراب أرضكم ، ولمفاخرتكم بالحضارات المتعاقبة التي أغنت تراثكم ، بحفاظكم على وطنكم وكرامته وسيادته ووحدة بنيه .

كنا نفتخر بكم ، ونريد أن نحافظ على هذا الشعور ...
نريدكم ، أن تكونوا مجدداً موضع ثقتنا ، ومحبتنا ، ومباهاتنا ، ولن نألو جهداً ، لن نوفر فرصة ، ولم نوفر سانحة في الوقوف معكم ، فجراحكم هي جراحنا ، وآلامكم هي آلامنا ، وكل ما يضيمكم هو ضيم لنا ، أفلاّ تستفيقون ، أفلاّ تستعيدون المبادرة ، وتضعوا مصلحة بلادكم فوق كل إعتبار.

أين كنتم ، وأين أنتم الآن ، أقولها بحرقة الأخ ، بألم الشريك ، بلوعة المحب لكم ولبلدكم.

حاولت وأحاول ، أن أقلب كل المعادلات ، بحثاً عما يحدث في لبنان ، وعما يفعله أهل هذا البلد الصغير في وطنهم ،
لجأت الى كل المقاربات ، والسيناريوهات ، يميناً وشمالاً ، غرباً وشرقاً ؛
أعترف أني عييت ، وإستحال عليّ تفسير ما يدور في رحاب هذه الجنة الصغيرة ، التي قال عنها أمير الشعراء يوماً أنها باب الخلد ...
أعترف ولن أستسلم ، لن أقرّ بأن ما يحدث هو من صنيعة اللبنانيين أنفسهم ...
فهذه البلاد هي وديعة إنسانية ، وعطاء رباني ، وتحفة منّت عليكم الطبيعة بها ، ولا أجد سبباً واحداً مقنعاً أو مقبولاً لما تفعلونه .
فاللبنانيون اليوم ، يعيشون أسوأ مراحل حياتهم ... والبطالة متفشية في كل مكان ، والإستثمارات العربية والأجنبية تغادر وربما الى غير رجعة ، والمصانع والمعامل وحتى المطاعم تقفل أبوابها ليخرج منها جيوشاً من المعوزين الذين يعانون مريراً للحصول على رغيف خبز يسدون به الرمق ، أو قميصاً يحميهم من قساوة الطبيعة ...
والهجرة أضحت الهدف ، والملاذ ، والتشرد بحثاً عن فرصة عمل أصبح السمة الطاغية على مئات الآف من اللبنانيين يجوبون بلاد العالم ، حاملين معهم أحزانهم وآمالهم ، خوفهم وجزعهم ، غربتهم ، وإنتمائهم ،
أفلاّ يستدعي هذا الحال المزري ، وقفة تفكير ، وإستعلاء ، ومكابرة ، أفلاّ يستدعي هذا إنبعاثاً للماضي الكامن فيكم ، وللأصالة والوطنية الساكنة في أعماقكم ؛
وأنتم تدركون جيداً ، وربما كنتم باكورة من أكدّ أن الأرض والوطن ، هما العرض والشرف والكرامة والعزة ، ولا شيء يماثل هذه المسلمات الدينية والدنيوية .
إذن دعوا لبنان يعيش ، دعوا هذا الوطن الصغير واحة للكون ، وعودوا الى مناقشة خلافاتكم بهدوء وبتؤددة وبمحبة وإنفتاح في مؤسساتكم الدستورية ، في مجلس نوابكم الذي يمثل كل أطياف ومكوّنات مجتمعكم ، في حكومتكم الجامعة التي هي ملك الشعب ولخدمته وليس العكس .

عودوا الى الحوار البنّاء ، الى كلمة سواء ، الى العقل والمنطق ، تحت عنوان واحد: لا بديل عن لبنان الواحد ، لا بديل عن وحدة الشعب .
فكل الخلافات تمسي صغيرة وتفصيلية حين يتعرض الوطن للخطر ، والإنقسام ؛
وكل السياسات تضحي أهواءاً ورذاذ مطر عندما يصبح الشرف أي الأرض على المحك ، والعرض أي السيادة محل تجاذب .
إن كل المغريات تتضاءل وتصبح آنية وهي كذلك على أية حال ، إزاء الخسارة الكبرى وهي الأوطان ،

لذا إرحموا لبنان ، إرحموا أولادكم ، إرحموا بناتكم ، إرحموا أطفالكم ، إرحموا الثكالى والأرامل والشيوخ ، إرحموا شبابكم .
ولا تعطوا أعداء بلادكم الفرصة للشماتة بكم ، وحاولوا أن تخففوا حزن وقلق محبيكم وأخوانكم وأصدقائكم ...

إني على يقين بأن وطنكم لبنان يسكن منكم في الوجدان والقلب ، وهو قبلتكم ، وأولويتكم ، إلا أن الذي يحدث على أرضكم يعرض حتى وجودكم للخطر والتفتيت ، فالمطلوب وقفة مع الذات ، مع الضمير ، مع المواطنية الحقّة ، وقد يكون المطلوب بعض التنازلات للوطن من كل الأطراف ولا ضيرّ في ذلك ، ولا إمتهان ؛

فالإنسان لا ينتصر على وطنه ولا ينهزم أمامه ، والإنتصار الحقيقي هو في كرامة ووحدة لبنان .

أخرجوا من متاريسكم المزعومة ، أخرجوا من شوارعكم الى النور ، أسقطوا عنكم جدران الفرقة والتباعد وحوائط العار والتمزق ...

عودوا الى الحوار والتلاقي ، مدوا أيديكم للقاء الآخر وعقولكم لقبول شجونه وهمومه وإرتيابه ، فلا مناص من اللقاء ، ولا بد من التوحد ، ومن لغة العقل ...



خلف أحمد الحبتور
 

أعلى


 

 | الصفحة الرئيسية | مجموعة الحبتور | فنادق متروبوليتان | دياموندليس لتأجير السيارات | مدرسة الإمارات الدولية
الملكية الفكرية 2003 محفوظة لمجموعة الحبتور
| جميع الحقوق محفوظة
لايجوز إعادة نشر المقالات والمقتطفات منها والترجمات بأي شكل من الأشكال من دون موافقة مجموعة الحبتور
الموقع من تصميم ومتابعة الهودج للإعلانات ـ دبي هاتف: 2293289