تشومسكي تحت المجهر

بقلم: ليندا هيرد.

عاد البروفيسور نعوم تشومسكي، الشهير بين أوساط المفكرين بفضل نظرياته الثورية في علوم اللسانيات ولمواقفه السياسية اليسارية، عاد إلى الأضواء بقوة مؤخراً حين حث الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز الشعب الأمريكي على قراءة كتابه "الهيمنة أو البقاء" المنشور عام 2003. وفوراً قفز الكتاب إلى المرتبة الأولى على قائمة مبيعات أمازون. فيما يلي تحلل ليندا هيرد شخصية ورسالة هذا المفكر.

لم يشعر أحد بالمفاجأة أكثر من نعوم تشومسكي حين بدأ الرئيس هوغو تشافيز خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي بالتلويح للحضور بنسخة من كتاب "الهيمنة أو البقاء" لتشومسكي.

حينها قال شافيز: "إن نعوم تشومسكي هو من أهم المفكرين في أمريكا والعالم وهذا هو أحد أحدث كتبه، الهيمنة أو البقاء: الاستراتيجيا الإمبريالية للولايات المتحدة."

وأضاف: "هذا كتاب ممتاز لمساعدتنا في فهم ما كان يحدث في القرن العشرين وما يحدث الآن وفهم التهديد الأكبر الذي يواجه كوكبنا. أعتقد أن أول من يجب أن يقرأ هذا الكتاب هم إخواننا وأخواتنا في الولايات المتحدة لأن هذا التهديد قابع في ديارهم." كانت تلك هي المقدمة التي افتتح بها شافيز كلامه قبل أن يتنشق الهواء ويتظاهر بأنه يشتم رائحة الكبريت، قاصداً بالطبع جورج بوش الذي كان موجوداً في القاعة قبل أن يبدأ شافيز خطابه.

ولم يتأخر تشومسكي في الرد على هذه التحية بالمثل، إذ خلال زيارته لتشيلي أبدى تأييده لمحاولة فنزويلا الحصول على مقعد لها في مجلس الأمن الدولي وهاجم أولئك الذين يريدون التصويت لمنافستها غواتيمالا. وحينها قال تشومسكي إن "الفنزويليين يعيشون جواً من الديمقراطية التامة."

للوهلة الأولى يبدو هذا الإعجاب المشترك بين الإثنين أمراً غريباً. بل هناك من يقول بأن الاثنين يخططان للالتقاء قريباً. فما هو ذلك الشيء المشترك الذي يمكن أن يجمع بين زعيم لاتيني متواضع وشعبوي وعالم لسانيات يهودي خجول إلى جانب كرههما للسياسة الخارجية الأمريكية الحالية إضافة إلى ذلك الكتاب الذي يحقق أعلى المبيعات حالياً؟

يقول تشومسكي في مقابلة معه عن هذا الكتاب في إذاعة الراديو الوطني العام في 2003: "أعتقد أن عنوان الكتاب يمثل المعضلة التي يتعين على الأمريكيين مواجهتها، وهي معضلة في منتهى الجدية بالفعل. صحيح أن سياسة الرئيس بوش ليست بالشيء الجديد تماماً، غير أنها بلغت مستوى التطرف. إنها تمثل إعلاناً واعترافاً سافراً بأن الولايات المتحدة تخطط للهيمنة على العالم، وبالقوة إذا ما تطلب الأمر ذلك، ولمنع ظهور أي تحد لها على المدى الطويل."

ويضيف: "بشكل أو بآخر، قد تكون الهيمنة تهدياً لبقائنا إذا ما جرى السعي لتحقيقها وفق الوسائل التي تطورها إدارة الرئيس بوش، غير أننا لسنا مجبرين على القبول بهذه الخيارات. الأمر يعود إلى المواطنين الأمريكيين... إن طبيعة هذه السياسات تزيد من حدة خطر انتشار أسلحة الدمار الشامل كما تزيد من مستوى تهديد الإرهاب."

هذه هي، بحكم المصادفة، الرسالة نفسها التي كان يعمل الرئيس شافيز وما يزال على إيصالها لكل من هو مستعد لأن يسمع.

وشأن شافيز أيضاً، يعتقد تشومسكي أن سياسة بوش الخارجية تشتمل على بعد عنصري، غير أنه يقول أيضاً إن هذا البعد يضرب جذوره عميقاً في الثقافة الأمريكية جمعاء بحيث يصبح من الصعب عزوه لبوش فقط.

يقول تشومسكي: "العنصرية ضد العرب، على سبيل المثال، متفشية في الولايات المتحدة. وليس هذا فحسب، بل إن ما أعنيه هو أننا إذا ما نظرنا إلى الوراء لمرحلة العنصرية ضد السود لما شعرنا بالحاجة حتى للحديث عنها لنثبت وجودها. غير أن الأمر ينطبق أيضاً على باقي شعوب العالم.
"ولو نظرت إلى الوثائق السرية التي أفرج عنها، إلى المواقف إزاء الأمريكيين اللاتينيين، لوجدت أنها تتصف بالعنصرية السافرة. إنهم أطفال طائشون يجب تعليمهم الانضباط وعدم السماح لهم بتسيير أورهم الخاصة بأنفسهم. يجب علينا أن نضربهم على رؤوسهم بين الفينة والأخرى حتى يبقوا متزنين. هذا ما يقوله وزير الخارجية الأمريكي دالاس (جون فوستر دالاس 1953-1959). هذه هي التجربة الأمريكية في تفاصيلها وعمومها غير أنها أيضاً نتاج للإمبريالية الأوروبية التي لم تكن مختلفة عن ذلك في السابق كما أنها غير مختلفة عنه الآن."
لا بد أن ذلك له فعل السحر في أذن شافيز. رئيس الوزراء العراقي السابق إبراهيم الجعفري هو أيضاً من المعجبين بتشومسكي، كما يقول لورانس كابلان في نيو ريبابليك: "فيما كان صور المذبحة في الخارج تظهر على شاشة تلفزيون في ركن الغرفة، اعترف الجعفري بأنه ميال لأعمال نعوم تشومسكي. وقال متسائلاً: لماذا لا يأتي تشومسكي إلى العراق؟"

غير أن نك كوهين الذي نشر مقالة عن الكتاب في صحيفة أوبزرفر لك يكن معجباً به بهذا القدر. ويقول إن تشومسكي هو "أستاذ سياسة المرآة الذي تعتبر كتاباته نموذج عن قدرة اليسار الغربي على انتقاد كل ما ينتمي إلى الغرب باستثنائه هو نفسه."

وعلى الرغم من أن كوهين يعترف بأن لتشومسكي "شعبية طاغية" فهو يقول إن شعبيته تصبح "مثيرة للاستغراب عند أول مرة تقرأ فيها أحد أعماله." كما يصف سرد تشومسكي بأنه مكثف ومليء بحالات الاستنباط الخلفي حيث النتائج لا تتفق مع المقدمات أما نثره فهو معقد صعب الفهم.
ويقول كوهين إن كتابات تشومسكي تروق أساساً للقراء الغربيين الهانئين نتيجة لمضمون واحد تحمله: الرأسمالية، والرأسمالية الغربية تحديداً، هي المسؤولة عن مشكلات العالم. وبالتالي فإن مقاومتها، مهما كانت منحرفة، هي أمر محتوم وإن أخذت هذه المقاومة شكلاً بربرياً فإن الرأسمالية هي المسؤولة عن هذه البربرية.

ولم يقصر الكاتب والبروفيسور ألان درشوفيتز، من كلية الحقوق في جامعة هارفارد الأمريكية، في توجيه سهام النقد لكتاب "الهيمنة أو البقاء". وعنه يقول: "لا أعرف حتى الآن أي إنسان قرأ عملاً لتشومسكي. أحدنا يشتري كتبه، فيضعها في جيبه أو يضعها على طاولة القهوة."
ويضيف: "أؤكد لكم أن أحداً لن يمضي في قراءة كتاباً له حتى نهايته. إنه لا يؤلف أعمالاً تجذب الإنسان لقراءتها بل هو يؤلف كتباً تجعل أحدنا يمل قراءتها. ستجد الكثير من الصفحات المطوية في كتب تشومسكي، وهي غالباً ما تكون عند الصفحة 16."

درشوفيتز وتشومسكي كانا على خلاف شديد طوال أعوام كثيرة بخصوص مستقبل فلسطين. وفي الحقيقة، منذ التقيا لأول مرة خلال أحد المخيمات الصهيونية الناطقة باليهودية عام 1948 و درشوفيتز يشعر بحسد يمكن تفهمه من مكانة تشومسكي التي لا سبيل لنكرانها. والصحيح أيضاً أن أعمال تشومسكي ليست من النوع المناسب للقراءة الليلية قبل الخلود للنوم.

من الصعب على المرء توصيف شعبية تشومسكي. فالناس إما أنها تحبه أو تكرهه. وعلى الرغم من أنه يعتبر أيقونة اليسار السياسي تجد أن بعضاً من الناشطين اليساريين يصفونه بأن حارس بوابة اليسار، وهو لقب مسيء يوصف به عادة الفرد الذي يبدو ليبرالياً في الظاهر غير أن هدفه الحقيقي هو تقريع وتقليل شأن أي إنسان يشكك أو يعارض الخط الرسمي.

وهؤلاء يأخذون عليه رفضه لنظريات المؤامرة بخصوص 11 سبتمبر وتصديقه بأن جون كينيدي مات بالفعل مقتولاً بيد فرد لا تقف منظمة ما وراءه كما يأخذون عليه قصر نظره السياسي حين يناقش قضية اللوبي الإسرائيلي القوي في الولايات المتحدة الذي انتقده كثيراً نتيجة مواقفه المؤيدة للفلسطينيين.

أحد هؤلاء النقاد هو بيتر سيموندز الذي يقول في إحدى كتاباته: "أثبت تشومسكي في الولايات المتحدة أنه أداة مفيدة في يد الطبقة الحاكمة، حيث ساهم في تقييد حدوث معارضة شعبية وفي الحرب ضد أشكال التعبير عن الغضبة الأخلاقية ومنعها من أن تتخذ اتجاهاً ثورياً."

ربما يكون الجانب الأكبر من هذا النقد نابعاً من الحاجة العضوية التي يحس بها الناس لتقسيم وتوصيف قادتهم الفكريين بأوصاف جاهزة مريحة لهم. وتجد هؤلاء عادة مقتنعين بأن اليمين، واليسار أيضاً، يجب أن يؤمن بمعتقدات شاملة لا تقبل التجزيء.
تشومسكي يسبب نوعاً من التشويش لبعض الناس لأن أفكاره لا تأخذ بمبدأ الأبيض أو الأسود. كما أن هناك أيضاً الميل العام لدى الناس لمنح المصداقية أو سحبها من أي إنسان يتمتع بالنفوذ باعتباره يتبع أجندة معينة، فيما الحال بالنسبة لتشومسكي هي أقرب لأن يكون إنساناً مستقلاً بنفسه.
وبدلاً من ذلك ربما لا نرى تشومسكي مستعداً لأن يورط نفسه في الجدل الثائر بعد أن وصفه البعض بأنه كاتب اعتذاريات نيابة عن الخمير الحمر في كمبوديا أو بالعداء للسامية نتيجة دفاعه عن حق روبرت فوريسون الذي أنكر المحرقة اليهودية بحرية التعبير.

وفي ضوء رفض تشومسكي رفع دعاوى قضائية حتى على أولئك الذين ارتكبوا ضده القذف والسب وكونه هو شخصياً من عائلة يهودية متشددة، تبدو تلك الاتهامات بأنها مثيرة للسخرية.

يقول عنه كاتب سيرته إنه نشأ في أسرة يهودية عبرانية صرفة وكانت له مشاركته في الحركة الاستيطانية اليهودية كما كان مهتماً على الدوام بأعمال الدولة اليهودية. والداه كانا يعملان مدرسين في مدرسة دينية يهودية وكانت لعائلته مشاركات دائمة في النشاطات اليهودية. بل إنه تعرف على زوجته في مدرسة يهودية. ولهذا فاتهامه بالعداء للسامية اتهام أجوف.

شخصياً أرى أن تشومسكي هو من بين الأفراد النادرين الذين يتصرفون بناء على المبدأ والقادرين على تنحية ميولهم الموروثة جانباً وتغليب الموضوعية عليها. وهذا هو ما فعله في آخر كتبه "الدول الفاشلة: إساءة استخدام القوة والهجوم على الديمقراطية."

بين دفتي كتابه هذا يطرح تشومسكي مقدمة تقول إن الدول الفاشلة تبدي "عجزها عن حماية مواطنيها من العنف وربما التدمير. كما تبدي أيضاً ميلها لاعتبار نفسها بعيدة عن متناول يد القانون الوطني أو الدولي، وبالتالي طليقة اليد لارتكاب العدوان والعنف."

ويحث تشومسكي قراءه في هذا الكتاب على أن ينظروا لأنفسهم في المرآة بصدق، ويضيف قائلاً: "إننا إذا ما أعطينا لأنفسنا الفرصة لنفعل ذلك حقاً لما واجهتنا سوى صعوبة صغيرة في اكتشاف وجود أمارات الدول الفاشلة هنا في وطننا."

سواء اتفقنا مع نظرة تشومسكي إلى شؤون العالم أو اختلفنا معها، فإن مؤشر المقتطفات للآداب والعلوم الإنسانية يشير إلى أن أعمال تشومسكي هي الأكثر نقلاً عنها من أعمال أي كاتب آخر على قيد الحياة في العالم بين عامي 1980 و1992.

كما حصل تشومسكي على مجموعة هائلة من الدرجات العلمية الفخرية من حوالي 30 من أشهر جامعات العالم مثلما فاز مرتين بجائزة أورويل واختاره قراء مجلة بروسبيكت للفوز بلقب أهم مفكر على قيد الحياة لعام 2005 في استطلاع أجرته المجلة.

ربما لا يتورع ألان درشوفيتز عن القول إن أحداً لا يقرأ أعمال نعوم تشومسكي غير أن مثل هذه القاعدة الضخمة من المعجبين الأكاديميين الكبار لا بد وأنها تفعل صواباً ما. وشأن ما كان عليه إدوارد سعيد، فإن تشومسكي يمثل حالة فريدة. والعالم سيكون مكاناً أكثر قتامة وأقل إثارة حين يرحل عنه.


أعلى

 


أعلى | الصفحة الرئيسية | مجموعة الحبتور | فنادق متروبوليتان | دياموندليس لتأجير السيارات | مدرسة الإمارات الدولية
الملكية الفكرية 2003 محفوظة لمجموعة الحبتور
| جميع الحقوق محفوظة
لايجوز إعادة نشر المقالات والمقتطفات منها والترجمات بأي شكل من الأشكال من دون موافقة مجموعة الحبتور
الموقع من تصميم ومتابعة الهودج للإعلانات ـ دبي هاتف: 2293289