الثلاثاء، 16 أبريل 2024

أوكرانيا ضحية صراع جيوسياسي على النفوذ

بقلم خلف أحمد الحبتور

© Shutterstock

المشكلة في سلطة الشعب هي أنها غالباً ما تتسبّب بعواقب غير مرجوّة. يصعب في الوقت الحالي توقُّع تأثر تلك العواقب على #أوكرانيا. إلا أنه لا يمكن استبعاد إمكانية اندلاع حرب أهلية أو اجتياح روسي شامل للجزء الشرقي والجنوبي من البلاد الذي يُعتبرَ موالياً لموسكو. المؤكّد هو أن هذا الصدام بن القوى الكبرى يجعل عالمنا أقل استقراراً بكثير ما كان عليه قبل بضعة أسابيع فقط. يردد أن المحتجّين الذين لا يزالون يمكثون في ميدان الاستقلال في كييف قلقون من احتمال خسارة شبه جزيرة القرم وسيطرة روسيا عليها. خلال الاستفتاء المقرّر إجراؤه في 16 مارس المقبل.

 تعتبر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن التصويت هو انتهاك للدستور الأوكراني والقانون الدولي. وموسكو متلهّفة لاستقبال القرم - التي كانت تابعة لأراضي الروسية حتى عام 1954 عندما وهبها خروتشيف لأوكرانيا - في "أحضانها" من جديد. لكن الرئيس أوباما يرفض ذلك رفضاً قاطعاً: "نحن في عام 2014 ، وقد ولّت تلك الأيام عندما كانت الحدود تُرسَم فوق رؤوس قادة الدول الديمقراطية". قد يثير هذا الكلام الاستهجان لدى البعض. لم تُنتخَب القيادة المؤقتة في #أوكرانيا بطريقة ديمقراطية، ولا تمثّل السكّان الذين يتحدّرون من أصل روسي وأولئك الناطقين بالروسية في البلاد. فضلا عن ذلك، لقد شجّعت الولايات المتحدة أحياناً النزاعات الانفصالية، بما في ذلك تقسيم يوغوس افيا وانشطار السودان إلى دولتَين. إنها لعبة غالب ومغلوب بالنسبة إلى كل الأفرقاء المتورّطن فيها. يأمل الأوكرانيون بأن يشكّل توقيع اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي ضمانة لتحسن معاير العيش. لكن عليهم أن يتحلّوا بالصبر في هذا الإطار. فبلدهم مفلس، ويحتاج إلى 35 مليار دولار أمريي خلال السنتَين المقبلتن لتسديد فواتره.

لقد عرضت الولايات المتحدة ضمانات قروض بقيمة مليار دولار. ويبدي الاتحاد الأوروبي استعداداً لضخ 15 مليار دولار على شكل قروض وهبات شرط توقيع اتفاق بن كييف وصندوق النقد الدولي الذي يُرّيد على وجوب إجراء إصلاحات اقتصادية جذرية.

سلّط المساعد السابق لوزير الخزانة الأمريكي بول كريغ روبرتس، الضوء على تقرير نُشرِ في صحيفة "كومرسانت" الأوكرانية حول مطالب صندوق النقد الدولي. فقد كتب "ستؤادّي خطة التقشّف إلى خفض الخدمات الاجتماعية وتمويل التعليم، وتسريح الموظفين الحكوميين، وتراجع قيمة العملة، بما يتسبّب بارتفاع أسعار الواردات التي تشمل الغاز الروسي، وبالتالي ارتفاع كلفة التيار الكهربائي، ويجعل الأصول الأوكرانية عرضةً للاستيلاء عليها من جانب الشركات الغربية... وبهذا تتكرّر التجربة اليونانية من جديد". تبدو وكأنها وصفة حتمية للاضطرابات الأهلية. لا يملك الاتحاد الأوروبي الموارد الضرورية لدعم #أوكرانيا في المدى الطويل. ولذلك بإمكان بوتن أن يكتفي بالجلوس ومشاهدة التيّار ينقلب لمصلحة روسيا ما إن يجد مؤيّدو الاتحاد الأوروبي الحاليون أنفسهم يرزحون تحت وطأة ارتفاع أسعار الطاقة، وزيادة الضرائب، وانتشار البطالة. ومن جهته يبدو البيت الأبيض وكأنه يسجّل هدفاً في مرماه من خلال التهديدات التي يطلقها بعزل روسيا اقتصادياً. لقد  أصدر الرئيس أوباما قراراً تنفيذياً بتجميد الأصول التي يملكها أفراد روس وأوكرانيون في الولايات المتحدة فضلاعن حظر منح تأشيرات سفر للروس والأوكرانين. وشدّد على عدم وجود أي خلاف بين واشنطن وبروكسل حول الحاجة إلى الضغط على الرئيس بوتن لتغير مساره. لكن هذا ليس صحيحاً! يحاول قادة الاتحاد الأوروبي أن يُظهروا أنهم جبهة موحّدة، لكن الواقع هو أن هناك انقسامات بينهم. فبعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لا تستطيع تحمُّل التداعيات التي يمكن أن تترتّب عن انتقام موسكو من العقوبات الغربية. يحضر المشرعون الروس مشروع قانون يُجيز مصادرة الأصول الأمريكية والأوروبية. وفي هذا الإطار، لا بد من الإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي لا يعتمد فقط على الطاقة الروسية، بل هو أيضاً الشريك التجاري الأكبر لروسيا؛ فنحو 41 في المئة من مجموع التبادلات التجارية للاتحاد الأوروبي يتم مع روسيا. وفي هذا السياق، تعاني ألمانيا على وجه الخصوص من الهشاشة كونها تعوِّل على روسيا للحصول على 60 في المئة من احتياجاتها من الغاز.

 تعمل نحو 6200 شركة ألمانية على الأراضي الروسية حيث تُقدَّر قيمة استثماراتها ب 20 مليار يورو. علاوةً على ذلك، ساهمت التجارة مع روسيا في استحداث 300 ألف وظيفة في ألمانيا. تردّد بريطانيا أيضاً في مصارعة الدب. يحلو لرئيس الوزراء ديفيد كامرون أن يتكلّم بلهجة حازمة، لكن تكشف وثيقة صُوِّرت في يد مسؤول رفيع المستوى في الإدارة البريطانية، عن حكاية مختلفة. فقد ورد فيها "على المملكة المتحدة ألا تدعم في الوقت الحالي العقوبات التجارية أو تُغلق المراكز المالية في لندن أمام الروس... وعليها الحؤول دون حدوث أي نقاش عن شن عمليات عسكرية طارئة". يستثمر الروس مبالغ طائلة في سوق العقارات في لندن،  فقد أنفقوا 500 مليون جنيه استرليني في العام الماضي وحده. إذا فُرِضت عقوبات على الروس في بريطانيا، فقد لا تعمّر فقّاعة العقارات طويلا. أظن أن بوتن يرى في الحلفاء الغربين دباً من ورق؛ يجأر بقوة لكنه لا يستطيع أن يعضّ، وخير دليل على ذلك ما حدث العام الماضي، عندما تراجع هؤلاء الحلفاء عن قصف مواقع الأسلحة الكيميائية في سوريا. وراح الرئيس أوباما ووزير خارجيته جون كري يقومان بجولات مكّوكية بن واشنطن ولندن وباريس وجنيف لوقف المجازر بحق الأبرياء السوريين عن طريق الوسائل الدبلوماسية. وفي هذا الإطار، عملا عن كثب مع مجموعة "أصدقاء الشعب السوري". وما كانت النتيجة؟ لجأ الأسد إلى مزيد من التصعيد العسكري مع إفلات من العقاب.

 وبدلاً من معاقبة إيران التي تقدّم له الرعاية، تسعى الولايات المتحدة إلى رأب علاقاتها مع ذلك البلد. يتعرّض الرجال والنساء والأطفال في سوريا للقتل يومياً على أيدي النظام السوري والحرس الثوري الإيراني والجماعات الإرهابية المتحالفة معه . أما الوعود التي يطلقها أوباما وكيري لإنقاذ الشعب السوري فقد تبينّ أنها مجرّد كلام فارغ. لذلك حذارِ أيها الأوكرانيون من مغبّة وضع ثقتكم بالبيت الأبيض! انتقد السناتور الأمريكي جون ماكين سياسة أوباما في الشؤون الخارجية واصفاً إياها ب"العاجزة"، وحمّلها جزءاً من المسؤولية في تقدّم القوات الروسية إلى القرم. إذا كان الأوكرانيون الذين يميلون نحو أوروبا يعتقدون أن الغرب سيضمن سلامة أراضيهم ويرصف شوارعهم بالذهب، فهم واهمون. نصيحتي إليهم هي عدم التعويل على الوعود الفارغة التي يطلقها كيري وسياسيو الاتحاد الأوروبي و"حلف شمال الأطلسي)الناتو(. فالمصالح الخاصة للدول الغربية ستتفوّق دائماً على هموم الناس. ليست للسباق بين روسيا وأوروبا علاقة كبيرة بالتطلّعات الأوكرانية. إنه في الجوهر شدّ حبال جيوسياسي يعود إلى زمن العداوات التي كانت سائدة خلال الحرب الباردة. إنها معركة لجسّ النبض ومعرفة من هو الطرف الذي ستخبو عزيمته أولاً. يلجأ الفريقان إلى الاستقواء والتصعيد، ولا يبدي أيٌّ منه ا استعداداً للتخفيف من حدّة التشنّجات. وتسبّبت هيلاري كلينتون التي يُتوقَّع أن تترشّح للرئاسة خلفاً لأوباما، بتسميم الأجوا أكثر عندما قارنت بوتن بهيتلر. لن تنفع العصي والحجارة في دفع بوتن نحو الإذعان. بل يمكن أن يكون للتهديدات والعقوبات تأثر معاكس. لا وجود للهزيمة في قاموس بوتن. لقد أدّى التدخل العسكري الروسي في جورجيا عام 2008 إلى وضع جمهوريتَي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية المنفصلتَن عن جورجيا تحت السيطرة الروسية التي لا تزالان تخضعان لها حتى يومنا هذا. وثمة إجماع عام بين المحللين بأن بوتن سينجح في السيطرة على القرم. قال رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأمريكي مايك روجرز "أظن أن بوتن يلعب الشطرنج، في حين نلعب نحن بالكِلّة. لا مجال حتى للمقارنة". يوافقه دونالد ترامب الرأي، فهو يأسف لتراجع السلطة الأمريكية في العالم ملقياً اللوم في ذلك على "القيادة الضعيفة والمثيرة للشفقة " .

 لست أصطفّ إلى جانب بوتن، فأنا أعارض سياساته معارضة تامة، لكنني أرحم حزمه في اتخاذ القرارات وقدرته على الصمود. بوتن رجل قرار - وهذه سمةٌ يفتقر إليها عدد كبير من القادة في عالمنا اليوم. العبرة التي نستمدّها من هذه الأحداث هي أنه بإمكان القوى الكبرى المسلّحة نووياً أن تتسبّب بإشعال ثورة، وتجتاح دولاً سيادية وتعيد ترسيم حدودها، في أي مكان في العالم، وفي أي وقت، من دون أن تترتّب عن ممارساتها أي تداعيات خطرة عليها. من الواضح أن مبدأ "القوي على حق" لا يزال حياً ومنتراً في القرن الحادي والعشرين - وهذه الفكرة كافية لتجعلنا جميعاً نرتعد خوفاً

تعليق
الرجاء المحافظة على تعليقاتك ضمن قواعد الموقع. يرجي العلم انه يتم حذف أي تعليق يحتوي على أي روابط كدعاية لمواقع آخرى. لن يتم عرض البريد الإلكتروني ولكنه مطلوب لتأكيد مشاركتم.
المزيد من المقالات بقلم