لا تزال #إسبانيا موضع تندّر بسبب ذهنية "يوم غد" (mañana) السائدة في آداب العمل، والتي تبقى عاملاً مساهماً في التباطؤ الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد. غالباً ما يردّد أبناء #أمريكا_اللاتينية أنهم يعملون كي يعيشوا بدلاً من أن يعيشوا كي يعملوا، وهي فلسفة قد تبدو إيجابية للوهلة الأولى إلى أن يبدأ تسريح العمال وتزداد معدلات البطالة عندما يتراجع المستوى المعيشي.
عندما طلب مقدّم برنامج تلفزيوني من المطرب الإسباني خوليو إيغلسياس أن يشرح معنى كلمة mañana، قال إنها تُترجَم أن "العمل قد يُنجَز غداً، أو ربما في اليوم التالي، أو اليوم الذي بعده. وربما الأسبوع أو الشهر أو العام المقبل... من يأبه؟"
بعض البلدان الواقعة عند ضفاف المتوسط وداخل العالم العربي تعاني من الكسل بالدرجة نفسها، لا بل أكثر في بعض الحالات – وهي في الأغلب بلدان تتخبّط اقتصادياً. كانت اللائمة خلف تلك السلوكيات تُلقى على الطقس الحار، لكن ذلك العذر لا ينفع عندما نرى أن الإمارات العربية المتحدة وسواها من دول الخليج تثمّن كثيراً الفاعلية والانضباط الذاتي وحس المسؤولية، فهذه الدول لا تتساهل مثلاً مع التكاسل في مكان العمل أو التأخر في الوصول إلى المواعيد.
هذه الثقافة الواهنة التي تفتقر إلى الحيوية سائدة في مصر التي تناضل من أجل الوقوف من جديد على قدمَيها بعد أربع سنوات من الاضطرابات الشديدة. لقد شدّد الرئيس #عبد_الفتاح_السيسي، في عدد كبير من خطبه، على وجوب أن يشمّر المصريون عن سواعدهم ويأخذوا عملهم على محمل الجد، مضيفاً أنه ليست هناك من حلول سريعة. وقد لفت السيسي إلى أنه لا يستطيع القيام بالأمور بمفرده. لكن مناشدته هذه لم تلقَ آذاناً صاغية.
تحتاج مصر إلى قوانين نافذة يجري تطبيقها في القطاعَين العام والخاص كي تتحوّل بلداً حديثاً من القرن الحادي والعشرين قادراً على تأمين احتياجات سكّانه الذين يزيد عددهم حالياً عن 91 مليون نسمة ويسجّل نمواً سريعاً. المصريون مبادِرون بطبيعتهم، بدءاً من الرجل أو المرأة التي تبيع عرانيس الذرة في زاوية الشارع وصولاً إلى الأشخاص الذين يعملون في مجال التكنولوجيا الابتكارية أو يملكون شركات خدمات حديثة العهد.
العاملون لحسابهم الخاص ومالكو الأعمال الصغيرة طموحون؛ إنهم يعملون لساعات طويلة ويقومون بكل ما يلزم. لكن لا يمكن قول الشيء عينه عن الموظفين في مختلف الوظائف والمراتب. فقد حاولت خلال زيارة قمت بها مؤخراً إلى #القاهرة، التواصل مع العديد من المديرين والمسؤولين حوالى الساعة التاسعة صباحاً، لكنهم لم يكونوا قد وصلوا إلى مكاتبهم بعد. زرت أحد أشهر الفنادق، 5 نجوم، والذي يشغل واحداً من أفضل المواقع في العاصمة المصرية، أملاً في لقاء مديره العام، لكن قيل لي إنه نادراً ما يأتي إلى الفندق قبل العاشرة صباحاً.
بصراحة، لو كان يعمل في أحد فنادقي، لما بقي خمس دقائق في عمله. أتوقّع رؤية الموظفين في شركاتي يباشرون عملهم عند الساعة السابعة والنصف صباحاً على أبعد تقدير، تماماً كما أفعل أنا دائماً. كنت محظوظاً لأن والدَيّ علّماني أهمية الاستيقاظ باكراً لمواجهة تحدّيات النهار، وقد كان مؤسس #دبي #الشيخ_راشد_بن_سعيد_آل_مكتوم مثالاً يُحتذى في اتّباع هذه الفضيلة. لم يكن يقبل أن يبقى المقرّبون منه نياماً بعد الساعة السادسة صباحاً؛ وقد أنّبني ذات مرة لأن صوتي بدا ناعساً.
تماماً كما أن كلمة mañana كانت تنساب بسهولة على ألسنة الإسبان قبل انضمام بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي، من أكثر الكلمات ترداداً على ألسنة المصريين عند التشكيك في التزامهم بالوقت أو كفاءتهم – وترافقها عادةً إيماءة باليد – "معليش"، أي لا يهم. سواءً كان الخطأ صغيراً أو فادحاً، يقولون "معليش"، ما يمكن أن يثير فعلاً سخط محدِّثهم الشديد لأنهم لم ينجزوا أمراً يعتبره هو طارئاً – والأسوأ من ذلك هو عندما يستتبعونها بعبارة "بكرا انشالله"، وهذه ليست ضمانة على الإطلاق بأنهم سينجزون ما هو مطلوب منهم.
البيروقراطيون هم من أسوأ المذنبين في هذا المجال؛ يعرفون أنهم ضمنوا وظيفة لمدى الحياة، وليس هناك ما يحفّزهم على التألّق في وظيفتهم. قيل لي إنه أمر معهود أن يختفي موظّفو الخدمة المدنية لساعات يغفون خلالها على مكاتبهم، أو يقشرون الخضار لإعداد طعام الغداء، أو يدخّنون السجائر تحت لافتة "ممنوع التدخين" المعلّقة على الجدار وراءهم.
تنعكس ثقافة عدم الانضباط على سلوك الناس في القيادة على الطرقات. يُختصَر قانون السير على الطرقات السريعة في مصر بالعبارة الآتية: فليتدبّر كل سائق أمره بنفسه. تشقّ السيارات والحافلات الصغيرة وعربات الـ"توك توك" طريقها عبر التعرّج بين السيارات، فتنقضّ عليك من مختلف الاتجاهات أو تعكس مسارها وسط طرقات مزدحمة. في أحيانٍ كثيرة، تكون الطرقات السريعة مظلمة في الليل، ومن الشائع رؤية سيارات تسير في الاتجاه الممنوع في الشوارع. لا أحد تقريباً يتكبّد عناء وضع حزام الأمان، وسوف تصادف سائقين كثراً يحملون السيجارة في يدهم أثناء القيادة أو يتكلّمون عبر هواتفهم الجوّالة.
تنقل سيارات التاكسي على سطحها مفروشات مكدّسة بعضها فوق بعض، ولم أصدّق عينَيّ عندما رأيت دراجة نارية يستقلّها رجل مع زوجته التي تحمل طفلاً على ذراعها، وولدَين صغيرَين، وعجوز من المرجّح أنها جدّتهم!
صراحةً، تعاني دول عربية أخرى من المشكلات نفسها بدرجات متفاوتة، لكن مصر حيث يترواح معدل البطالة عند حدود 13 في المئة، ويحاول آلاف الخرّيجين الجامعيين دخول سوق العمل سنوياً، تحتاج إلى تغيير جذري في هذا المجال قبل حدوث تململ جماعي.
ينبغي على الحكومة وأصحاب الشركات التشدّد في التعامل مع منتهكي القوانين، لكن في المدى الطويل، يجب تلقين الطلاب في المدارس فضائل الانضباط الذاتي والتفاني من أجل الوطن والالتزام بالواجبات الوظيفية، كي تبدي الأجيال المقبلة حماسة لبناء مصر من جديد، وتعتز بالدور الصغير الذي أدّته في جعل وطنها يستعيد عظمته.
بإمكان الدوائر الحكومية تنظيم محترفات عمل في الكليات والمراكز الاجتماعية الشبابية، وبث حملات دعائية تثقيفية عبر شاشات التلفزة لإيصال الرسالة بأن المجتمع المنضبط هو مجتمع ناجح، وللتشديد على الفوائد التي يمكن تحقيقها على المستوى الشخصي جراء ممارسة ضبط النفس. لقد توصّلت أبحاث نشرتها مجلة "جورنال أوف برسوناليتي" إلى أن "ضبط النفس الشديد يجعل المرء سعيداً". هذه معلومة تشجّع فعلاً على التحلي بضبط النفس!
قد لا يكون المصريون الأكثر انضباطاً أو تنظيماً على وجه الكرة الأرضية، لكنهم يتمتعون بالكثير من المزايا الأخرى؛ إنهم من الشعوب الأكثر ترحيباً بالضيف، وقد أُنعِم عليهم بالدفء الإنساني والقدرة على المزاح والسخرية من متاعبهم.
حبي الشديد لمصر ورغبتي القوية في رؤيتها تزدهر هما اللذان يُشعرانني بالحاجة إلى تنبيه الحكومة المصرية. لا يمكن تغيير ثقافة شعب بين ليلة وضحاها، لكن إذا نجحت سنغافورة وهونغ كونغ في استبدال الفوضى المنظّمة بالحيوية الاقتصادية، فلا شيء يمنع مصر من أن تحذو حذوهما.