كان لي في وقت سابق هذا الشهر شرف تمضية وقت جيد في تبادل الأفكار مع الرئيس كارتر وزوجته روزالين في مركز كارتر في أتلانتا وفي جامعة إلينوي في جاكسونفيل، حيث جاء بناءً على دعوة وجّهتُها إليه لإطلاق مبادرة "سبل السلام" التي تهدف إلى إيجاد حلول للنزاع #الفلسطيني_الإسرائيلي الذي يعيث خراباً في منطقتنا والغرب.
في إطار هذه المبادرة، سوف تُعقَد ندوات بصورة منتظمة يشارك فيها 12 طالباً وأستاذاً من جامعة إلينوي خلال ربيع 2015 يدرس خلالها المشاركون أساليب تسوية النزاعات العرقية والثقافية والدينية، وذلك بهدف تحفيز أفكار وحلول جديدة حول كيفية وضع حد للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني. سوف يتوجه الطلاب إلى الأردن وفلسطين وإسرائيل للقاء صنّاع القرار وطلاب واستطلاع آرائهم. وسوف تُسلَّم الأوراق النهائية إليّ في دبي لتقويمها.
وقد وجّهت باربرا فارلي، رئيسة جامعة إلينوي، رسالة مستنيرة جاء فيها: "أظن حقاً أن المشكلة هي أننا لا نأخذ آراء الآخرين في الاعتبار. نحاول فقط فرض آرائنا. لذلك علينا إرسال أشخاص إلى هناك ليروا ما يجري ثم يُحدّدوا ما السبيل لتغيير ذلك الواقع بالاستناد إلى معتقداتهم هم وليس معتقداتنا".
مشاركة الرئيس كارتر تضفي على هذه المبادرة المزيد من الثقل والزخم اللذين تستحقّهما. شكراً لك، سيدي الرئيس، على تلبية النداء من دون تردّد ولأنك قدوة مميّزة في القيادة في مرحلة يفتقر فيها العالم بشدّة إلى قادة حقيقيين. ففيما تعمل بجهد من أجل مساعدة الفقراء والمحرومين، ولا تهاب قول الحقيقة عن معاناة الفلسطينيين، يُصدر الآخرون ضجيجاً دبلوماسياً لا طائل منه. بعض الرؤساء ورؤساء الوزراء ومنظمات حقوق الإنسان بارعون في الكلام لكنهم لا يُحرّكون ساكناً ليقرنوا القول بالفعل. أما أنت فتحدث فارقاً حقيقياً.
انت لستَ ممن يحبّون التقاعد بهدوء وتمضية بقية حياتهم في لعب الغولف. فأنت تسافر من بلد إلى آخر بلا كلل أو ملل، حتى إنك لا تتردّد في الذهاب إلى البلدان التي ترزح تحت وطأة النزاعات أو الأوبئة، فتجازف بحياتك من أجل خير البشرية بغض النظر عن العرق أو اللون. وفي هذا السياق، أستشهد بكلام صديقي، عضو الكونغرس بول فيندلي، الذي عمل بلا كلل من أجل القضية الفلسطينية: "جيمي كارتر هو الرئيس الوحيد الذي لم تنتهِ رئاسته بعد مغادرته البيت الأبيض".
على غرار باراك أوباما، نال الرئيس كارتر جائزة نوبل للسلام. لكن الفارق هو أنه في حين أستحق جيمي كارتر الجائزة "نظراً إلى الجهود الدؤوبة التي بذلها على امتداد عقود من أجل التوصّل إلى حلول سلمية للنزاعات الدولية، ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتحفيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية"، لم يفعل أوباما شيئاً ما عدا إطلاق الوعود الفارغة.
عندما قال كارتر: "لن أروي الأكاذيب أبداً" و"لن أتجنّب المسائل الخلافية" خلال الفترة التي سبقت حملته الانتخابية، كان يقصد كل كلمة يقولها، لكن لسوء الحظ، ألقت أزمة الرهائن الأميركيين في إيران وفشل الولايات المتحدة في تحرير المواطنين الذين احتجزهم متشدّدون إيرانيون عنوةً في السفارة الأمريكية، بظلالها على حظوظه بالفوز بولاية رئاسية ثانية. قال أمام الحشد الذي اكتظّت به القاعة في جامعة إلينوي إنه لدى سؤاله كيف كانت حياته في الأعوام القليلة الماضية، يذكر رسماً كاريكاتورياً يظهر فيه صبي صغير يقول لوالده: "عندما أكبر، أريد أن أصبح رئيساً سابقاً".
لا يجب التغاضي عن إنجازات الرئيس كارتر الرئاسية. وتأتي في مقدّمتها الوساطة التي قام بها في كامب ديفيد والتي ساهمت في التوصّل إلى معاهدة سلام بين إسرائيل ومصر وأرست أسس المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية المستقبلية حول حل الدولتَين. وقد ضمَّن آراءه وأفكاره عن تلك الحقبة في كتاب بعنوان "دم أبراهام". سعى إلى أن تكون حكومته ذات كفاءة ومتعاطفة مع الناس؛ فقد استحدث ثمانية ملايين وظيفة وخفّض عجز الموازنة. وقام بتوسيع المتنزهات الوطنية عبر إضافة ملايين الهكتارات إلى مساحتها، وحسّن نظام الضمان الاجتماعي، وحرص على الإفساح في المجال أمام النساء والأمريكيين من أصل أفريقي والناطقين بالإسبانية على الانضمام إلى العمل في القطاع العام. علاوةً على ذلك، اتّخذ خطوات جريئة لإقامة علاقات دبلوماسية مع الصين، ونجح في التفاوض مع الاتحاد السوفياتي والتوصّل إلى معاهدة للحد من انتشار الأسلحة النووية.
وقد أطلق الرئيس كارتر وزوجته، انطلاقاً من تصميمهما على الاستمرار في إحداث فارق إيجابي في العالم، مركز كارتر - وهو عبارة عن منظمة غير حكومية لا تتوخّى الربح هدفها "تعزيز حقوق الإنسان والتخفيف من المعاناة البشرية"، وذلك عام 1982 في أتلانتا في إطار شراكة مع جامعة إموري. إلى جانب كونه هيئة محترمة ومحايدة لمراقبة الانتخابات، يعمل مركز كارتر أيضاً على التوسّط في حل النزاعات، والدفاع عن حقوق الإنسان، والقضاء على الأوبئة والأمراض. كان الرئيس كارتر من الأشخاص الأساسيين الذين ساهموا في تعبيد الطريق أمام التوصّل إلى معاهدة نووية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية؛ كما أنه رافق كولن باول إلى هايتي من أجل إعادة تنصيب الرئيس المنتخب ديمقراطياً، وتوسّط من أجل التوصّل إلى معاهدة بين السودان وأوغندا، وقام بزيارة تاريخية إلى كوبا بهدف تحسين العلاقات الأمريكية-الكوبية.
بيد أن السلام الصعب بين إسرائيل والفلسطينيين يبقى هدفاً عزيزاً على قلبه. وقد كان كتابه "فلسطين: السلام لا الفصل العنصري" الذي حقّق أفضل المبيعات، موضع ثناء لصراحته وسط أجواء معادية لمعارضي السياسات الإسرائيلية، ومحط إدانة من اللوبي الموالي لإسرائيل الذي اعتبر أنه يُلامس معاداة السامية، وهو توصيف يوزّعه المدافعون عن إسرائيل يمنةً ويسرةً في محاولة لتشويه سمعة كل من يجرؤ على تحدّي سلوك إسرائيل وإفلاتها من العقاب.
لكن الرئيس كارتر أصرّ على موقفه قائلاً: "تخضع مسائل سجالية كثيرة تتعلق بفلسطين ومسار السلام بالنسبة إلى إسرائيل، لنقاش حاد في أوساط الإسرائيليين وفي دول أخرى - إنما ليس في الولايات المتحدة. هذا التردّد في انتقاد سياسات الحكومة الإسرائيلية سببُه الجهود التي تبذلها لجنة العمل السياسي الأمريكية-الإسرائيلية بلا كلل لممارسة ضغوط في هذا الصدد، وغياب الأصوات المعارِضة الحقيقية".
إبان الهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة الذي تسبّب بمقتل أكثر من ألفَي فلسطيني ونزوح 250000 شخص، أدان الرئيس كارتر إسرائيل لارتكابها جرائم حرب. ودعا إلى المباشرة بتنفيذ إجراءات قانونية دولية لمحاسبة إسرائيل، كما ناشد هذه الأخيرة المبادرة فوراً إلى رفع الحصار عن قطاع غزة.
لقد انطبعت مسيرة الرئيس كارتر بتعاطفه مع الأقل حظوةً وشغفه بتعزيز حقوق الإنسان. وهو معروف بتواضعه. خلال مراسم تنصيبه رئيساً على الولايات المتحدة، رفض أن يستقلّ سيارة ليموزين مفضّلاً السير مشياً على الأقدام برفقة زوجته عبر جادة بنسلفانيا، وكان يحمل دائماً حقيبته بنفسه عندما يركب الطائرة الرئاسية. التقيته ثلاث مرات، منها مرّتان في دبي حيث استضفته مع أفراد من عائلته في مزرعتي. وبما أنه كان مزارعاً في السابق، أُعجِب كثيراً بالحيوانات في مزرعتنا وشعر وكأنه في منزله.
لطالما وجدت فيه إنساناً متواضعاً جداً ولطيفاً وإيجابياً ومفعماً بالطاقة. باختصار، إنه إنسان رائع يأخذ قيمه المسيحية على محمل الجد. زوجته، السيدة الأولى سابقاً روزالين كارتر، هي ساعده الأيمن منذ عقدَ قرانه عليها عام 1946. شخصيتها آسرة، وكانت تشارك في اجتماعات الحكومة واجتماعات تحديد السياسات خلال السنوات التي أمضتها في البيت الأبيض، وعُيِّنت مبعوثة الولايات المتحدة إلى أمريكا اللاتينية. أظن أن الرئيس كارتر يؤيّد بكل طيبة خاطر القول المأثور: "خلف كل رجل عظيم امرأة". ثمة أمرٌ أكيد. لو كان مزيد من أصحاب النفوذ يتمتّعون بشجاعة الرئيس كارتر والتزامه، لكان عالمنا أفضل بكثير ويعمّ السلام في ربوعه.
نُشِرت في الصحف في 19 أكتوبر 2014