العيد الوطني الثالث والأربعون لهذا العام، إحياءً لذكرى رفع العلم الإماراتي عالياً لأول مرة عام 1971، هو واحدا من أكثر المناسبات بهجةً في الروزنامة الإماراتية، ولأسباب وجيهة جداً.
يشعر معظم الأشخاص بالاعتزاز ببلادهم وإنجازاتها. إنه لأمر طبيعي أن يشعر الإنسان بالتعلّق بأرضه التي تحمل ذكريات كثيرة، وحتى عندما كنت فتى صغيراً أترعرع في دبي التي كانت آنذاك جزءاً من الإمارات المتصالحة تحت الحماية البريطانية، كنت أعتزّ بجذوري. لكن عندما أعلنت المملكة المتحدة أن المعاهدة ستصبح قريباً لاغية وباطلة، أحاطت بنا جميعاً سحابة كبيرة من الالتباس والريبة بشأن ما يخبّئه المستقبل لنا، في حين غمرنا في الوقت نفسه فرحٌ شديد لأننا كنا على وشك أن ننال استقلالنا. كيف عسانا ندافع عن أنفسنا؟ من سيتمكّن من إبعاد أسماك القرش الكبيرة التي تتربّص بنا؟ وكان شاه إيران واحداً منها، فقد انتهز الفرصة ونهب منّا ثلاث جزر قبل انتهاء العمل بالمعاهدة بفترة قصيرة .
عانينا من المشقّات من دون أن ندرك أن الحياة صعبة وقاسية. كنّا محرومين من الضروريات فما بالكم بالكماليات، لكننا كنّا نعوّض عنها بالروابط العائلية الواسعة والمتينة. كنزنا كان كرامتنا وصدقنا وأهليّتنا للثقة.
وأهلنا وأخواننا وأخواتنا وأبناؤنا كانوا جواهرنا الحقيقية. وقد صمدت هذه القيَم على مر العقود. نعلّمها لأبنائنا. كان والدي يقول لي دائماً أن أرفع رأسي عالياً وأحدّق في عينَي الشخص الذي يكلّمني. , فخورون بهويتهم، وبالمجتمع الذي أنشأوه، وهو واحدا من الأماكن القليلة في العالم المتعدد الثقافات التي تنعم بالاستقرار والأمن والسلام والانسجام.
لقد مضت تلك الأيام. لكن الآن بات اعتزازنا أضعافاً مضاعفة بفضل حكّامنا الذين بنوا معاً دولة موحّدة وقوية تمضي قدماً عاماً تلو الآخر وعلى مستويات كثيرة، بما يجعلها قبلة أنظار المنطقة. لقد وضع حاكم أبوظبي المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وحاكم دبي المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، يداً بيد، مخطّطاً للمستقبل. كانا عربيّين أصيلَين، ابنَين حقيقيين لهذه الأرض، لم يستمدّا حكمتهما من الكتب إنما من قلبيهما النقيَّين وروحيهما الصافيتين. أحبّا شعبهما وأرادا الأفضل له؛ كانا متواضعَين وقريبَين من الناس. كان الجميع مرحّباً به في مجلسهما، من المواطن العادي إلى أرباب العائلات الثرية. وكانوا يُعامَلون باحترام على قدم من المساواة، وكنا جميعنا نحظى بفرصة التعبير عن مشاكلنا. لقد أهديانا الثقة بالنفس؛ وشجّعانا على الاجتهاد في العمل؛ وطلبا منّا تقديم تضحيات لبلادنا الجديدة. ولم يكن لدينا أي مانع. لقد وضعنا حياتنا في عهدة هاتين الشخصيتين الاستثنائيتين.
في حين كان أجدادنا يذهبون بحثاً عن اللؤلؤ، ساهم جيلي والأجيال اللاحقة في تحويل الإمارات إلى ماسة في المنطقة تعكس الابتكار والتفكير التقدّمي والفرص السانحة. الإمارات هي دولة الأوائل، ليس لأننا نريد التباهي بإنجازاتنا، بل لأن هذا البلد الصغير أراد أن يحفر اسمه على الخريطة. ما زلت أذكر عندما كان الناس في الخارج يسألوننا: "الإمارات؟ أين تقع؟" لو كنّا عاديين أو متوسّطي المستوى، لما حصلنا على التقدير في العالم بأسره. لم يكن أمامنا من سبيل سوى السعي إلى التفوّق والتميّز. اليوم، لا شك في أن الجميع، ما عدا أولئك الذين يعيشون في الكهوف، سمعوا باسم الإمارات الذي أصبح مرادفاً للنجاح.
تُقدّم الإمارات نمط عيش لا مثيل له في أي مكان آخر في العالم. وتشتهر ببناها التحتية المتطورة ذات الشهرة العالمية. نملك المؤسسات التعليمية والمنشآت الطبية الأكثر جودة. ومن يحترمون بيننا القوانين يتمتّعون بحريات تبقى مجرد حلم بعيد بالنسبة إلى شعوب الغرب. بالطبع، يصوّتون ويختارون ممثّليهم في الغرب. لكن بصراحة، من يستطيع أن يقول بكل صدق وأمانة أنهم استطاعوا أن يحدثوا فارقاً حقيقياً من خلال خياراتهم؟ الديمقراطية في شكلها الحقيقي، "الحكم من الشعب، من أجل الشعب" هي وهم. على الشعب أن يدفع دائماً ضريبة الديمقراطية، وغالباً ما تُهدَر المكاسب على حروب الخيارات. أما في ما يتعلق بالمساواة في الفرص، فليست أكثر من مجرد جزرة تُلوّح بها الدول لإخضاع الجماهير في حين تمتلئ جيوب النافذين بالأموال.
الديمقراطية التي سُلِّمت إلى أفغانستان والعراق على ظهر قنبلة، ليست سوى خداع مطلق. يُخيَّل إلى الناس أنهم أصحاب سلطة وقرار، في حين أن قوتهم محدودة جداً في الواقع. أكثر من ذلك، يُرغَمون على تكريس كل طاقاتهم واستنفادها من أجل الحفاظ على وظائفهم كي يتمكّنوا من تسديد الفواتير. الملايين عاطلون عن العمل أو لا يملكون حتى مكاناً يؤويهم. تمتلئ شوارع نيويورك وباريس ولندن وسواها من المدن الغربية الكبرى بالمشرّدين، مع العلم بأن حكومات تلك الدول أغنى بكثير من الحكومة الإماراتية على صعيد التطورات التكنولوجية والتأثير الجيوسياسي والقوة العسكرية. هناك أشخاص أناس ينامون في سياراتهم أو تحت الجسور.
ويقف آخرون طوابير أمام الكنائس أو مراكز الجمعيات الخيرية للحصول على وجبة طعام ساخنة. تعتاش العائلات من الإعانات الغذائية. وماذا تقول منظمات حقوق الإنسان؟ لا شيء؛ إنها منهمكة بانتقاد بلدان الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية على انتهاكاتها المزعومة لحقوق الإنسان.
تفسيرنا لحقوق الإنسان مختلف الى حد ما عن التفسير الغربي. لا نكمل طريقنا من دون أن نلتفت إلى شخص يسقط مريضاً في الشارع، أو آخر تعطّلت سيارته بسبب ثقب في الإطار. لا نترك أهلنا في أماكن حيث يموتون وسط غرباء، أو نرمي بمراهقينا في الشارع ليتدبّروا أمورهم بأنفسهم. نؤمّن كل ما يحتاج إليه المواطن ليعيش حياة كريمة في بيئة جميلة وآمنة، بدفعٍ من النمو الاقتصادي ومن وجود أرض خصبة مؤاتية للأفكار الجديدة. قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي: "السلطة هي من أجل خدمة الشعب، لا السيطرة عليهم". واعتبر أن الهدف الذي تسعى إليه حكومته هو جعل المواطنين في هذا البلد سعداء. هل سمعتم يوماً رئيساً أو رئيس وزراء غربياً يقول كلاماً من هذا القبيل؟
طوال على مدى عقود، كنا بمثابة طلاب متلهّفين كي نكتسب أكبر قدر ممكن من العلم والمعرفة. أرسلنا أبناءنا إلى جامعات غربية؛ واستخدمنا أفضل الخبرات وكنّا منفتحين على تقبُّل النصائح من الخبراء الأجانب. الآن بعدما بلغت الإمارات العربية المتحدة النضوج، تفوَّق الطالب على معلّمه. وفي عيدنا الوطني الثالث والأربعين، في الثاني من ديسمبر 2014، أدعو العالم كي يتعلّم منا كيف تُدار الأمور بطريقة أفضل.
نشرت في الصحف في 29 نوفمبر 2014