في 22 أبريل سيتوجّه الناخبون في فرنسا إلى صناديق الاقتراع ليقرّروا إما الإبقاء على الرئيس نيكولا ساركوزي في قصر الإليزيه لولاية ثانية وإما اختيار أحد منافسيه رئيساً جديداً للبلاد. على غرار معظم المراقبين غير الفرنسيين، ساورتني الشكوك في بداية ولايته الرئاسية حول خصاله كرجل دولة. كان يُلقَّب آنذاك بـ”السيد بلينغ بلينغ” نظراً إلى ولعه بالمظاهر والتبذير، وقد راودتني الشكوك بأنه قد لا يتمكّن من الوفاء بوعده بإعادة بلاده إلى مصاف الدول العظمى. المفاجئ هو أنه نجح في مسعاه هذا. آمل أن يُقرّ الناخبون الفرنسيون بذلك عبر التصويت له.
لقد أصبح نيكولا ساركوزي رجل دولة عظيماً على غرار الرئيس شارل ديغول الذي قاد فرنسا الحرّة خلال الحرب العالمية الثانية، والذي كان أوّل رئيس للبلاد بعد الحرب العالمية الثانية، فسعى إلى الارتقاء بها على الساحة الدولية. فمنذ استقالة ديغول في 26 أبريل 1969، شهدت فرنسا تراجعاً مطرداً في تأثيرها الجيوسياسي.
ثم جاء ساركوزي الذي تقدّم في المنصب عاماً تلو الآخر. واللافت للنظر هو أن شجاعته في إتخاذ القرارات قد دفعت باريس إلى الواجهة السياسية العالمية جنبا إلى جنب مع واشنطن ولندن حيث عمل على توطيد أواصر العلاقات معهما. ولم تكن هذه مهمّة سهلة على الإطلاق، فقد تسبّب الموقف الفرنسي المناهض للاجتياح العراقي عام 2003 بالسخرية من كل ما هو فرنسي في الولايات المتحدة، وصولاً إلى البطاطا المقلية التي تُعرَف بالإنجليزية بـFrench Fries أي البطاطا الفرنسية، وقد غُيِّر اسمها إلى Freedom Fries (بطاطا الحرّية). لم يدعم ساركوزي حرب العراق، لكنه اعتبر أنه كان حرياً بسلفه جاك شيراك أن يعالج خلافاته مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بأسلوب أكثر دبلوماسية.
وفي الآونة الأخيرة، أثبت الرئيس الفرنسي جدارته من خلال المواقف القيادية التي اتّخذها في مواقف وقضايا حسّاسة حول العالم. فهو لا يرضى بأن تظلّ فرنسا مجرّد متفرِّجة تقف على الهامش. لقد أُطلِق اسمه مؤخراً على شوارع وساحات في مختلف أنحاء ليبيا لأن الليبيين يعون تماماً أن الفضل الأول في تدخّل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) عسكرياً في ليبيا عبر فرض “منطقة حظر جوي” يعود إلى ساركوزي ومثابرته في هذا المجال. وكان ساركوزي قد قال بكلام واضح إن فرنسا مستعدّة لمساعدة المعارضة الليبية بفردها إذا دعت الحاجة.
ويتكلّم الرئيس الفرنسي بالصراحة نفسها عن همجية نظام الأسد ضد المواطنين في سوريا. فقد أعلن عن إغلاق السفارة الفرنسية في دمشق احتجاجاً المجازر البشعة التي يرتكبها بشار الأسد، وحذّر المسؤولين السوريين من أنهم “سيُحاسَبون على جرائمهم أمام المحاكم الدولية”.
يبدي ساركوزي تضامناً كاملاً مع أهداف المعارضة السورية، فقد قام بتقديم تحيّة احترام وإجلال للصحافيَّين الفرنسيين اللذين تم إجلاؤهما من مدينة حمص المحاصرة عبر استقبالهما في المطار لدى عودتهما إلى ديارهما. لقد خاضا مع زملائهما الإعلاميين مخاطرة كبيرة ومروّعة وذلك بحثاً عن الحقيقة.
وقد رسم المصوّر في صحيفة “صنداي تايمز”، بول كونروي، الذي أصيب بجروح خلال الهجوم الذي استهدف منزلاً آمناً للإعلاميين وأسفر عن مقتل المراسلة الحربية ماري كولفين، صورة مخيفة عن حي بابا عمرو المنكوب. فقد قال لقناة “سكاي نيوز”: “ليست حرباً بل إنها مجزرة. إنها مذبحة ممنهجة... مرّة أخرى يقف العالم مكتوف اليدين ويتفرّج”. قال إن قوّات النظام دمّرت شوارع بكاملها على رؤوس قاطنيها، وإن دفاعات الجيش السوري الحر ضعيفة. وأضاف أن النظام يتخلّص بطريقة ممنهجة من كل من يعترض طريقه، بما في ذلك النساء والأطفال وكبار السن. وشبّه القتل في حمص بمجزرة سريبرينيتسا في البوسنة والهرسك. قال لصحيفة “تلغراف” إن حمص هي مدينة من “الغرف المليئة بالأشخاص الذين ينتظرون الموت”. وروى كيف جلب له أحدهم طفلاً بُتِر نصف جسده وسأله “أين هي النجدة؟” وقال إنه شعر بألم شديد لأنه لم يستطع أن يجيبه. رسالة كونروي هي من أقوى الرسائل الموجَّهة من سوريا “في السنوات المقبلة، سنجلس ونسأل أنفسنا ‘كيف سمحنا بحدوث هذا أمام أعيننا؟’”
أنا على يقين من أن الرئيس ساركوزي علِم بتلك الفظائع من المراسلين الفرنسيين. أرجو أن يدفعه ذلك إلى تسليح المعارضة في الحال وفرض منطقة لحظر الطيران. لقد أنقذ مواطني ليبيا الغنية بالنفط، سواء كان ذلك لدوافع إنسانية أم تحقيقاً للمصلحة الوطنية الفرنسية، ولا شك في أن فرنسا ستزيد نفوذها في المنطقة التي تخضع للسيطرة الأمريكية إذا ساهمت في إطاحة نظام الأسد. ساركوزي هو الزعيم العالمي الوحيد القادر على رفع التحدّي؛ فالآخرون يكتفون بالأقوال من دون فعل. أناشد الرئيس الفرنسي التحرّك على وجه السرعة لوضع حد لهذه الوحشية التي يمارسها الإنسان بحق أخيه الإنسان.
كما أثبت الرئيس ساركوزي، بصورة مفاجئة إلى حد ما، أنه مدافع قوي عن قيام دولة فلسطينية، فهو لا يهاب استخدام كلمات حادة ضد توسيع حكومة نتنياهو للمستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وسرقة الأراضي العربية في القدس الشرقية. في سبتمبر من العام الماضي، اقترح وضع جدولاً زمنياً يمتدّ عام واحد لإقامة دولة فلسطينية، ولمّح مؤخراً إلى أن فرنسا ستعترف بدولة فلسطينية يجري الإعلان عنها بصورة أحادية في حال استمرّ الجمود في محادثات السلام. وانتقد بجرأة الولايات المتحدة لاستخدامها حق النقض (الفيتو) ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة، كما أنه يدعم رفع مستوى تمثيل فلسطين في الأمم المتحدة. وفي أكتوبر الماضي، صوّت لصالح انضمام فلسطين إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في وجه الاعتراضات الشديدة من واشنطن، مما يُظهر أنه صاحب قرار مستقل.
هناك بالتأكيد من يعتبرون أن ساركوزي قاد سياسات مناهضة للإسلام مثل حظر الحجاب في المدارس والبرقع في الأماكن العامة. كما أنه وجّه انتقادات للمسلمين الذين يعيشون في أوروبا لإخفاقهم في الاندماج في المجتمع في شكل عام. بيد أن منافسته في أقصى اليمين، زعيمة الجبهة الوطنية، مارين لو بن، تهاجمه لأنه شديد الليونة مع المسلمين في فرنسا.
فقد شبّهت لو بن التي كان والدها معروفاً بمعاداته للسامية، صلاة المسلمين في الشوارع بالاحتلال النازي، الأمر الذي أثار استهجان ساركوزي. مارين لو بن متأخّرة حالياً عن رئيس الحزب الاشتراكي، فرانسوا هولاند، وعن نيكولا ساركوزي في استطلاعات الرأي، لكن نظراً إلى أن بعض الأشخاص يشعرون بالإحراج ويفضّلون عدم الإقرار علناً بتأييدهم لحزب معروف بعنصريته، إلا أنها قد تشكّل تهديداً حقيقياً، لا سيما انطلاقاً من تجربة والدها المثير للجدل والذي أحدث قلقاً كبيراً عندما حلّ ثانياً في الانتخابات الرئاسية عام 2002.
قد لا يكون ساركوزي مثالياً، لكنه يملك مهارات خطابية رائعة وشخصية كاريزمية وشجاعة التعبير عن قناعاته الشخصية والتمسّك بها. إنه منصف، ونجح في إرساء توازن بين المصالح العربية والإسرائيلية في تعامله مع القضايا الشائكة في الشرق الأوسط. لا يُعرَف الكثير خارج فرنسا عن السياسة الخارجية لهولاند، المنافس الأساسي لساركوزي، إلا أننا نستشفّ أحد المؤشّرات من قيام المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا الذي يضم العديد من المنظمات اليهودية الفرنسية، بتهنئته على فوزه كمرشح للحزب الإشتراكي في الإنتخابات الرئاسية القادمة، مشيداً بالتزامه بإيمانه اليهودي وتعاطفه مع إسرائيل.
لكن السياسة الخارجية للمرشّح ليست أبداً عامل الاستقطاب الأوّل للأصوات. فقد كان على الرئيس ساركوزي، لسوء حظه وكما هو حال سواه من القادة الحاليين، أن يقود بلاده في خضم انكماش عالمي كبير. يزعم ساركوزي أنه أنقذ فرنسا من الكارثة الاقتصادية، لكن هل سيصدّقه الناخبون بعدما خسرت البلاد تصنيفها الائتماني الممتاز AAA، وفيما ترزح تحت عبء الديون المالية الكبيرة ويصل عدد العاطلين عن العمل فيها إلى عشرة ملايين نسمة؟ آمل أن يصدّقوه لأنه على النقيض من إسبانيا وإيطاليا والبرتغال واليونان، هناك بصيص أمل في آخر النفق الفرنسي.
لا شك في أن ساركوزي هو رهان أفضل من هولاند غير المجرَّب وغير المعروف الذي يُلقَّب بـ”السيد عادي”، وهو أفضل بكثير من لو بن التي تستند حملتها إلى تأجيج المشاعر المناهضة للإسلام. لا يبقى لي سوى أن أتمنّى له “حظاً سعيداً” من كل قلبي!