الخميس، 14 نوفمبر 2024

بلاروسيا مشرَّعة الأبواب أمام الأعمال

بقلم خلف أحمد الحبتور

Shutterstock ©
(من اليمين إلى اليسار): رئيس الوزراء البلاروسي ميخائيل مياسنيكوفيتش مع خلف الحبتور، رئيس مجلس إدارة مجموعة الحبتور
(من اليمين إلى اليسار): ميخائيل مياسنيكوفيتش وخلف الحبتور
خلف الحبتور ومعالي محمد عبدالله محمد الغفلي في مينسك

بما أنني رجل أعمال منفتح دائماً على الفرص الاستثمارية الجديدة والجذابة، سُرِرت بلقاء رئيس الوزراء البلاروسي ميخائيل مياسنيكوفيتش في دبي، وقبول دعوته لزيارة العاصمة مينسك التي تعد المركز الإقتصادي الكبير المطل على سفح تلّة حرجية عند ملتقى نهرَين. لم تكن لديّ أيّ أفكار مسبقة عن هذه المدينة المتعدّدة الأعراق التي تحيط بها اليابسة من كل الجهات وتضم 1.8 مليون نسمة، وتحدّها روسيا وأوكرانيا وبولندا وليتوانيا ولاتفيا - ولم أكن أتوقّع الكثير. أشعر بالامتياز لأنني سافرت حول العالم، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه بداعي الأعمال والترفيه على السواء، لكن نادراً ما أُعجِبت بمكان كما أُعجِبت بمينسك.

تسعى الحكومة البلاروسية بقيادة الرئيس ألكسندر لوكاشينكو الذي تسلّم منصبه لأول مرّة في العام 1994، جاهدةً لتحقيق الازدهار لمواطني البلاد الذين يكدّون في العمل، وذلك من خلال اعتماد سياسات تهدف إلى استقطاب الاستثمارات الخارجية والسيّاح. وقد ساهم برنامج الخصخصة الذي أطلقه الرئيس في الداخل إلى جانب المناخ المناسب للمستثمرين في جذب ما يزيد عن 5000 مستثمر أجنبي من 77 بلداً، بما في ذلك ماركات ذائعة الصيت عالمياً مثل "بوش" و"كوكا كولا" و"هيولت باكرد" و"كراون بلازا". فضلاً عن ذلك، وقّعت بلاروسيا معاهدات استثمارية ثنائية مع عدد من البلدان العربية، بينها الإمارات وقطر والبحرين والكويت ومصر ولبنان.

أنا على يقين بأن هذا الاقتصاد الناشئ لديه الكثير من الإمكانات غير المستغلّة. ويُتوقَّع أن تنعم بلاروسيا بمستقبل من الرخاء والازدهار. فالمؤشّرات موجودة. في الأشهر الثمانية الأولى من العام 2012، بلغ معدّل النمو 2.5 في المائة متجاوزاً المعدّل في بلدان عملاقة اقتصادياً مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا. وفي الأعوام الماضية، عقدت بلاروسيا منتديات استثمارية في لندن وفرانكفورت وأماكن أخرى. ومن المزمع عقد المنتدى الاستثماري السابع في بلاروسيا من 15 إلى 19 نوفمبر المقبل ويُتوقَّع أن يشارك فيه 400 شخص بينهم ممثّلون عن البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية وصحيفة "فايننشال تايمز".

لقينا أنا ورفيقي في الرحلة، سعادة السفير الإماراتي في بلاروسيا محمد عبدالله محمد الغفلي، ترحيباً حاراً جداً من رئيس الوزراء البلاروسي ومعاونيه. فقد بذلوا قصارى جهدهم لتأمين وسائل الراحة لنا لنشعر وكأننا في ديارنا. وفي بادرة لطيفة، دعاني رئيس الوزراء لتناول العشاء في أحد مطاعم "روبنسون كلوب" حيث جلسنا على ترّاس يُطل على بحيرة. شعرت باسترخاء شديد في حضرته، ولم أرغب في التقيّد بالشكليّات الرسمية.

قلت له "لست بارعاً في إلقاء الخطابات ولا أجيد المديح. أنا رجل أعمال وأفهم الخطط المتعلّقة بالأعمال. أعطِني خطة جيّدة وسأنظر فيها. سمعت أن اللحم هنا لذيذ جداً. فلندع الكلام جانباً ونتذوّق شرائح الستيك". ضحك مياسنيكوفيتش. لقد أحبّ صراحتي وأسلوبي المباشر، ونشأ انسجام ممتاز بيننا.

تملك بلاروسيا مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية؛ وهي تتمتّع بالاكتفاء الذاتي زراعياً ولا تحتاج إلى استيراد الخضار أو اللحوم. يحب الشعب البلاروسي كثيراً أكل اللحوم، وقد كانت شريحة الستيك التي تناولتها طريّة ولذيذة جداً. كما أتيحت لي أيضاً شرف تناول الغداء مع عمدة مينسك، نيكولاي لادوتكون، وتبادل الحديث مع وزير الرياضة والسياحة أوليغ كاشان، ومع سرغي تيتيرين نائب رئيس الاتحاد البلاروسي لكرة المضرب ونائب رئيس اللجنة الأولمبية الوطنية البلاروسية الذي اصطحبني في جولة على بعض المنشآت الرياضية من الدرجة الأولى.

وأكثر ما ترك أثراً لديّ في بلاروسيا هو اللطف وحسن الضيافة اللذان يتمتّع بهما شعبها. إنهم أقوياء القلوب، لا تفارق الابتسامة وجوههم، ويقاربون الحياة باتّزان وابتعاد عن الانفعال على الرغم من الماضي الأليم. فهذه البلاد التي كانت مركزاً ثقافياً بولندياً-ليتوانياً مهماً في القرن السادس عشر وإحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق تعرّضت لدمار اقتصادي واسع خلال الحرب العالمية الثانية عندما أحرق الغزاة النازيون ما يزيد عن 150 قرية وقتلوا مئات الآلاف. وكانت لمينسك حصّة كبيرة من الهجمات، وتحوّل الجزء الأكبر منها ركاماً. وأدّت الغارات المتلاحقة التي شنّتها القوّات الجوّية الألمانية إلى تدمير أكثر من ثمانين في المئة من مبانيها وبنيتها التحتية.

من ينظر إلى المدينة اليوم يصعب عليه أن يصدّق أنه قبل 71 عاماً، أتت عليها النيران التي ظلّت مشتعلة طوال أيام. وقد أعاد السوفيات بناءها من الصفر في خمسينيات القرن العشرين، وتحوّلت متحفاً في الهواء الطلق لعشّاق الهندسة المعمارية الستالينية النيو-كلاسيكية، إذ تتميّز بالمباني الحكومية الضخمة والجادّات الواسعة الرائعة، والساحات المهيبة، والحدائق العامة الفخمة، وتتوزّع نصب وتماثيل دراماتيكية هنا وهناك. لكن على النقيض من مدن كثيرة بناها السوفيات، ليست مينسك كالحة أو قاسية المعالم. فالزوّار يستمتعون بالجانب الترفيهي فيها الذي توفّره الملاهي والحانات والمطاعم والمتاجر فضلاً عن مركز تجاري من أربعة طوابق تحت الأرض في ساحة الاستقلال.

منذ إعلان بلاروسيا استقلالها، أعيد بناء المدينة القديمة حول منازل ومدارس متداعية تعود إلى ما قبل الخمسينيات. وفي تناقض واضح، تنتصب الأبراج المعاصرة التي تشكّل تحفاً فنّية في الهندسة المعمارية بمحاذاة الكاتدرائيات والكنائس القديمة، مما يجعل من مينسك مكاناً فريداً في المنطقة يتميّز بتنوّعه.

المدينة نظيفة وآمنة وخضراء، ويسهل التنقّل فيها بفضل منظومة فاعلة للنقل العام؛ يفتخر سكّان مينسك كثيراً بالمترو السريع الذي افتُتِح أول مرّة أمام الجمهور في العام 1984. مينسك جميلة في النهار، لكن في الليل، عندما تضاء المباني والبحيرات والأنهار بأنوار برّاقة ومؤثّرات خاصّة لم أرَ مثيلاً لها في كل البلدان التي زرتها، تصبح المدينة أشبه بجنّة على الأرض. والأرياف المحيطة بالعاصمة خضراء وخلاّبة، في تناقضٍ جميل مع ضجيج المدينة وحركتها يبعث على الهدوء والسكينة، وقد اختبرتُ ذلك عن كثب عندما توجّهت إلى راتومكا للقيام بجولة في المركز الوطني للتدريب على ركوب الخيل وتربية الأحصنة، وكانت رحلة ممتعة بكل معنى الكلمة.

ولعل الأمر الوحيد الذي آسف له في زيارتي التي استمرّت أربعة أيام هو أنني لم أتمكّن من لقاء الرئيس لوكاشينكو، هذا الرجل الذي يستحقّ التهنئة على قيادته بلاروسيا في الاتجاه الصحيح. كما أن إقامتي كانت قصيرة جداً، فلا يزال هناك الكثير لاكتشافه. لا يهم! "سأعود!" كما يقول أرنولد شوارزنيغر.

تعليق
الرجاء المحافظة على تعليقاتك ضمن قواعد الموقع. يرجي العلم انه يتم حذف أي تعليق يحتوي على أي روابط كدعاية لمواقع آخرى. لن يتم عرض البريد الإلكتروني ولكنه مطلوب لتأكيد مشاركتم.
المزيد من المقالات بقلم