"لقائي" بالرئيس لنكولن
"ألا أكون بحكم من يقضي على أعدائه بتحويلهم إلى أصدقاء له؟" (أبراهام لنكولن)

 

إنها لحقيقة مؤسفة أن القيادة المستنيرة أصبحت عملة نادرة في عالم اليوم. السياسة أصبحت اليوم مهنة قذرة فالساسة ورؤساء الحكومات يضعون طموحاتهم الشخصية ومصالحهم الحزبية قبل المصالح الوطنية لبلدانهم. وغالباً ما توضع الأخلاقيات جانباً وتعطى الأولوية للمكاسب فيما تضيع فرص السلام لإشباع رغبات النرجسية لهؤلاء الزعماء.

بدافع من شعوري بضرورة أن يكون زمام هذا العالم في أيدٍ آمنة وهو ما أصبح يشكل هماً شخصياً لي، ساهمت في توفير الدعم المطلوب لبناء مركز القيادة الذي تؤسسه كلية إلينويز ويرمي لتنمية الصفات القيادية التي ترتكز على القيم بين صفوف طلابها. وبهذه المناسبة المهمة، سافرت أواسط مايو الماضي إلى مدينتي جاكسونفيل وسبرينغفيلد في ولاية إلينويز.

وخلال وجودي هناك، قبلت دعوة جمعية في ألفا لأكون عضواً فيها وهو شرف أكبر أعتز بأني أشترك به مع شخصيات مستنيرة كبيرة مثل عضو الكونغرس الأمريكي بول فيندلي والمراسلة الأمريكية الشهير المختصة بالبيت الأبيض هيلين توماس والفائز بجائزة بوليتزر الأدبية البروفيسور ديفيد هربرت دونالد والباحث والكاتب الفلسطيني الأردني رامي خوري وأيضاً الرئيس الأمريكي السادس عشر أبراهام لنكولن. ومن نافلة القول أني شعرت بالدهشة وأنا أرى نفسي جزءأً من مجموعة متألقة مثل هذه وأنا عازم اليوم على أن خير ممثل لجمعية في ألفا التي تأسست عام 1845 سعياً "للوصول إلى الحقيقة".

بطبيعة الحال كنت دوماً معجباً بالإنجازات الكبيرة التي حققها لنكولن بإلغائه للعبودية وتوحيده للولايات المتحدة في دولة واحدة. غير أني اليوم أعرف عن عنه أكثر من ذلك بكثير بفضل صديقي بول فيندلي وعائلته الذين رافقوني في جولة داخل مكتبة ومتحف أبراهام لنكولن الرئاسيين. لم يكن ذلك الصرح مستودعاً لوثائق تاريخية فحسب بل هو أيضاً منارة تلقي الضوء على حياته الشخصية  عبر بعض مقتنياته الخاصة من مثل الكتاب الذي كان يتعلم به الحساب وساعة مكتبه وقبعته التي كان يتميز باعتمارها دوماً. وهناك يستعرض الزائر مسيرة حياة الرئيس لنكولن من لبيت الخشبي المتواضع في ولاية إنديانا الذي أمضى فيه طفولته الأولى وحتى البيت الأبيض.

كانت هذه التجربة بمثابة الإلهام لي. هذا هو القائد الذي يجسد المبادئ التي تأسست عليها أمريكا: الحرية والديمقراطية والعدالة للبشرية. بدأ لنكولن مشروعه بأقل القليل من الموارد ولم يكن لديه سوى الشجاعة والرؤيا والعزيمة والنزاهة، مناقب ساعدته في أن يأخذ بيد بلاده لتخرج من أتون الحرب الأهلية التي هددت بتمزيق أمريكا. لو أن الأمم الديمقراطية تختار قادتها بناء على تلك الأفكار التي جعلت من لنكولن شخصية عظيمة لكان عالمنا مكاناً أفضل مما هو عليه اليوم.

ولد أبراهام لنكولن في 4 مارس 1809 في بيت خشبي من غرفة واحدة في كنتاكي. وكان والده توماس مزارعاً رفض أن يستخدم العبيد في مزرعته لأسباب دينية ووجد أم من الصعب عليه أن ينافس جيرانه من المزارعين الذين يستخدمون العبيد. توفيت أمه نانسي وهو بعد في التاسعة من العمر لإصابتها بمرض تسمم الحليب. وصفها البعض بأنها "متدينة متزمتة"، غير أن لنكولن يعود بالفضل في ذكائه الفطري لأمه. وبالفعل فإن مجمل ما حصل عليه من تعليم مدرسي لم يتجاوز 18 شهراً وكل ما عداه كان قد تعلمه بنفسه. ولم ينتظر والده طويلاً قبل أن يتزوج من امرأة ثانية هي سارة بوش جونستون التي جمعته بها علاقة ودية رغم أن علاقته بوالدته أخذت بالبرود.

خوفاً من مرض تسمم الحليب القاتل انتقلت العائلة عام 1830 إلى إلينويز. وأصبح أبراهام البالغ من العمر حينها 22 عاماً يمضى أوقاته في ركوب النهر بقوارب الكانو أو يمارس لعبة المصارعة أو في قراءة الكتب التي كان يمشي أميالاً عديدة من أجل استعارتها. وأكسبته موهبته في التقليد ورواية القصص شعبية طيبة بين الناس. وبعد فترة قضاها وهو يعمل في القوارب النهرية ومن ثم في البريد وبعدها في متجر ومن ثم في المساحة، تطوع أبراهام عام 1932 ليشارك في حرب بلاك هوك وحصل بعدها على رتبة ملازم في الجيش. وبعد الترقية قال ساخراً إن مواجهاته مع البعوض كانت أكبر من حروبه مع الهنود الحمر.
في هذه المرحلة بدأ لنكولن يبدي اهتمامه بالسياسة. أولى محاولاته لدخول مجلس النواب فشلت لعدم توفر التمويل والعلاقات والمؤهل التعليمي. ولهذا قرر أن يدرس الحقوق. وأصبح في 1937 محامياً مرخصاً وانتقل إلى سبرينغفيلد في إلينويز حيث أسس شركة ناجحة.
ومع استقرار حياته المهنية بدأ أبراهام يفكر بالزواج. زوجته توفيت بعد فترة من المرض فتزوج ثانية من ماري تود، وهي فتاة طموحة وحسنة التعليم من إحدى عائلات كنتاكي الغنية. ورزق الزوجان بأربعة أبناء، غير أن واحداً منهم فقط ظل على قيد الحياة إلى أن بلغ سن الرجولة.
بعد أربع سنوات من زواجه فاز لنكولن أخيراً بمقعد في مجلس النواب. وفور دخوله المجلس تحالف مع المحافظين وأصبح معارضاً قوياً للحرب الأمريكية المكسيكية وهو ما أكسبه قليلاً من الأنصار في دائرته الانتخابية. وبعد انقضاء مدة عضويته في المجلس عرض عليه منصب الحاكم لمقاطعة أوريغون وهو العرض الذي رفضه. وفضل أن يعود إلى سبرينغفيلد ليواصل عمله الحقوقي.
وعاد عام 1854 إلى عالم السياسة ضمن صفوف حزب الجمهوريين وألقى أول خطاباته- والذي كثيراً ما تكرر لاحقاً، ضد شرور العبودية. "... لا يسعني إلا أن أكره العبودية. أنا أكرهها للظلم الفادح الذي تمثله العبودية بحد ذاتها. أنا أكرهها لأنها تحرم نظامنا الجمهوري من أن يكون له نفوذه المستحق في العالم وتمكن أعداء النظم الدستورية الحرة من وصفنا دون أن نتمكن من ضحدهم بأننا منافقون."

في شتاء 1860/1861 بعد فوز كان لنكولن بالانتخابات الرئاسية أعلنت ولاية كارولينا الجنوبية انسحابها من الاتحاد وسرعان ما تبعتها ست ولايات أخرى للانضمام للاتحاد الكونفدرالي للولايات الأمريكية الجديد بزعامة جيفرسون ديفيز.
وحينما إن تسلم لنكولن الرئاسة رسمياً في ربيع 1861، كان يأمل بأن يتمكن من حماية الاتحاد عبر تعديل الدستور من أجل إعطاء الولايات التي كانت العبودية شائعة فيها الحق في الاحتفاظ بالعبيد. غير أن الولايات الانفصالية كانت ترغب بأكثر من ذلك.
شهد يوم 12 إبريل 1861 بداية الحرب الأهلية الأمريكية حينما تعرضت القوات الاتحادية لإطلاق نار مما دفع لنكولن لأن للرد. ولم يمض وقت طويل حتى أعلنت أربع ولايات أخرى انفصالها والانضمام للاتحاد الكونفدرالي.
وعلى الرغم من كراهية لنكولن للقتل والعنف، وهو الذي حتى لم يصطد حيواناً، أصبح لنكولن على كره منه رئيساً محارباً. وتحرك الكونغرس في يوليو 1862 لتحرير العبيد بإصدار قانون المصادرة الثاني على أمل تثبيط عزيمة ملاك العبيد عبر حرمانهم من التمويل.

كان لنكولن يكره الحرب لكنه كان أيضاً يقرأ بتمعن الرسائل التي تأتيه من الجبهات واستخدمها لتشجيع جنوده في ميادين القتال. ويقال إنه كثيراً ما كان في مواقع قريبة جداً من القتال لدرجة أنه اضطر أحياناً للاختباء من الرصاص. وقال ذات مرة معترفاً: "لا أزعم بأني كنت أسيطر على الأحداث. بل أعترف بأن الأحداث هي التي كانت تتحكم بي."
وكان لنكولن بارعاً في استراتيجيات الحرب حيث أثبت قدرته على اختيار قادته حينما قرر تعيين الجنرال يوليسيس غرانت قائداً لقواته وأصبح بعدها الرئيس الثامن عشر للولايات المتحدة. كما بدت موهبته أيضاً في الجمع بين الخصوم معاً ليعملوا يداً بيد.

ورغم كونه من أشد أنصار الحريات المدنية، فقد وجد نفسه مضطراً خلال الحرب لأن يعلق تطبيق قانون المحاكمة الحضورية وتعرض للانتقاد للاعتقالات الاعتباطية وغير القانونية التي أمر بها. غير أنه رد على تلك الانتقادات بالقول إنه في وقت الحرب كانت أعماله ضرورية ودستورية وقال "أيتعين علي أن أحكم بالإعدام رمياً بالرصاص على جندي غر لهروبه من الجندية وألا أمس رأس محرض عامد أغواه بالفرار؟"
وتعرضت جيوش الاتحاد الكونفدرالي للهزيمة أخيراً في معركة غيتسبرغ الشهيرة التي مثلت نقطة الانعطاف الكبيرة للحرب. وفي خطابه الشهير في غوتسبرغ قال لنكولن "... هذه الأمة بعون الله سترى ولادة جديدة للحرية وأن حكم الشعب للشعب ومن أجل الشعب لن يغيب عن هذه الأرض بعد الآن."

ومع تواصل القتال، بدأ لنكولن يركز اهتمامه على المرحلة التي ستلي هذه الحرب والتي أمل أن يشكل الجنوبيون فيها حكومات جديدة لولاياتهم مستعدة لأن تعمل من أجل العثور على سبيل يمكن للبيض والعبيد السابقين أن يتعايشوا وفقه معاً. غير أن البعض في حكومته كانوا تواقين لاحتلال الجنوب بالقوة المسلحة ومنح العبيد السود المزارع التي يمتلكها أسيادهم السابقون. لكن اهتمام لنكولن كان منصباً على إعادة توحيد بلاده بالسبل الودية والتي كان من شأن مثل هذه العقوبة أن تعيق تحقيقه.

وحتى نهاية الحرب على نحو ما ذكرته الصحف في تلك المرحلة كان "آب الصادق" كما كان يحلو لأنصاره تسميته بطلاً ذا شعبية كبيرة بين الوحدويين. وأثنت صحيفة واشنطن كرونكل على "حكمته البينة... ورباطة جأشه وثبات عزيمته ومبادئه الأخلاقية الرفيعة ووطنيته العميقة." أما صحيفة ليفربول بوست في إنكلترا فأثنت على فضائله التي تنم عن الصدق والنزاهة والعزيمة وخفة الظل والشجاعة والتي قالت عنها الصحيفة إنها "يجب أن تثبت في الإنسان زمناً طويلاً حتى يتحول إلى بطل." فعلاً، أين هم قادة اليوم الذين بمقدورهم نيل مثل هذا الثناء الإعلامي.

غير أن لنكولن لم يكن البطل في عيون الجميع، إذ بعد ثلاثة أيام من استسلام قوات الاتحاد الكونفدرالي رأى حلماً أسر به إلى أصدقائه المقربين. "شعرت بثبات يشبه الموت في جسدي ثم سمعت همهمات مكتومة وكأنها لأناس يبكون." وانتهى ذلك الحلم بمشهد حشد من الناس حول جثة مغطاة ليسأل لنكولن الناس "من الميت في البيت الأبيض؟" فأجابه أحد الحراس "الرئيس... لقد اغتاله أحدهم."

وتبين أن ذلك الحلم كان رؤيا. بعدها بثلاثة أيام، في 14 إبريل 1865، اصطحب الرئيس زوجته إلى مسرح فورد لحضور مسرحية كوميدية بعنوان "ابن العم الأمريكي." الجنرال غرانت وزوجته كان مدعوين أيضاً إلا أنهما اعتذرا عن الدعوة لأن الزوجتين لا تطيقا الوجود في مكان واحد معاً.

يومها اختبأ في أحد أركان المسرح جون ولكس بوث، وهو ممثل حانق على لنكولن من أنصار الكونفدرالية المنحلة. كان بوث يعرف المسرحية تماماً وكان يعرف متى ستنطلق ضحكات الجمهور عالية بحيث تطغى على صوت رصاصة. وانتظر بوث أحدى أكثر لحظات المسرحية إثارة للضحك ليطلق رصاصة على رأس الرئيس من الخلف. ومع انتشار الهرج والمرج بين الجمهور حين معرفة ما حدث هرب القاتل من المسرح على حصانه ليجتمع بالمتواطئين معه. غير أن طورد لاحقاً إلى إحدى الحظائر وهناك قتله أحد الجند. كما تم القبض على المتواطئين معه وبينهم امرأة وقدموا لمحاكمة عسكرية.
وفي خضم حداد الأمة على رئيسها القتيل قال غرانت إن صديقه كان "أعظم إنسان سبق وأن عرفته."
ولا غرابة أن تفخر ولاية إلينويز بتلك الرابطة التي جمعتها بهذا الإنسان الكبير الذي ظل وفياً لمبادئه في السراء والضراء. الكثير من أساتذة الجامعات وطلابها كانوا أصدقاء لنكولن المقربين وأصبح عضواً في جمعيتين أدبيتين تأسستا في جامعتها: في ألفا وستيغماتيك.

وقد كشفت الجامعة العام الماضي عن تمثال جديد لأبراهام الصغير وهو يربت كلبه أثناء قراءته لكتاب بيده. وأطلق على هذا التمثال اسم "الاستعداد للعظمة" وأرادت الجامعة منه أن يكون نبراساً يذكر كل من يمر به ألا شيء مستحيل مع امتلاك العزيمة والموهبة والصدق والإخلاص وإرادة النجاح.

نعم، لن يعرف عالمنا أبراهام لنكولن آخر من جديد، ولكن لننتظر ونرى نوعية القادة الذين سيخرجهم مركز القيادة الجديد في كلية إلينويز. ويجدر بنا جميعاً أن نثني على إدراك الجامعة لعمق الحاجة لمثل هؤلاء القادة والعمل على تغيير الواقع للأفضل.

خلف أحمد الحبتور

(بمساهمة من دائرة المعلومات والبحوث في مجموعة الحبتور)

 | الصفحة الرئيسية | مجموعة الحبتور | فنادق حبتور | دياموندليس | مدرسة الإمارات الدولية
الملكية الفكرية 2010 محفوظة لمجموعة الحبتور
| جميع الحقوق محفوظة
لايجوز إعادة نشر المقالات والمقتطفات منها والترجمات بأي شكل من الأشكال من دون موافقة مجموعة الحبتور
الموقع من تصميم ومتابعة الهودج للإعلانات ـ دبي هاتف: 2293289