أتاح لي عملي في #الكونغرس التعرّف إلى أشخاص دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه. وخطب اثنان منهم حشداً من ألفَي شخص يوم الثلاثاء الماضي [14 أكتوبر 2014] في جامعة إلينوي. أحدهما هو الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر الذي أعتقد أنه الأمريكي الذي يحظى بالاحترام الأوسع في العالم. والثاني هو الدكتور خلف الحبتور من دبي، الذي لا يزال في منتصف مسيرته المهنية لكنه يصعد السلّم سريعاً في الأعمال التجارية والخيرية والتعليم والقيادة في العالم العربي.
واغتنمت فرصة لقائي بهما لأذهب في رحلة سريعة إنما سعيدة عبر الذكريات. التقيت كارتر لأول مرة في يناير 1977 عندما أقسم اليمين لتسلّم مهامه رئيساً للولايات المتحدة. ومع صعود اسمه على الساحة الدولية، وتحديداً في ملف #الشرق_الأوسط، كنت أجتمع به أحياناً في البيت الأبيض انطلاقاً من المهام التي كنت مكلّفاً بها في اللجنة التي كنت أنتمي إليها في #الكونغرس.
لقد عملت مع سبعة رؤساء أمريكيين، ولفتني كارتر من بينهم بشخصيته الإنسانية. كان لطيفاً يجيد الإصغاء ويراعي دائماً مشاعر الآخرين، ولم يكن يعرف التباهي، كما كان يُظهر حماسة شديدة للتعاون.
كان أيضاً صلباً مثل الفولاذ. ففي مناسبتين مهمّتين إنما تم التعتيم عليهما، أرغم رئيس الوزراء الإسرائيلي على وقف العمليات العسكرية في لبنان معتبراً أنها تنتهك القانون الأمريكي. وفي العملية الدبلوماسية في كمب ديفيد التي أنتجت معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل، أقنع الرئيس المصري أنور السادات بعدم المغادرة بعدما امتعض هذا الأخير من تعنّت رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن. وفي مناسبة أخرى، انتزع تنازلاً مهماً من بيغين أتاح الاستمرار في المفاوضات. بعدما أصبح جنوب اليمن العربي جزءاً من مسيرتي المهنية عام 1974، ناشدت كارتر إقامة علاقات دبلوماسية من جديد مع الحكومة المحلية. فأجابني "سأحرص على ذلك"، وقرن القول بالفعل.
كان كارتر رئيساً استثنائياً. عندما لم يصوّت له الناخبون لولاية ثانية، غادر البيت الأبيض إنما أخذ رئاسته معه. جمَع الأموال والتبرّعات من القطاع الخاص حصراً، وأنشأ مركز كارتر في أتلانتا، وشكّل فريقاً يساعده في استكمال جزء كبير من المساعي اللافتة التي عمل طاقمه في البيت الأبيض على تحقيقها في الداخل والخارج على السواء. يضم فريقه الآن 155 مهنياً يتمركزون في شكل أساسي في أتلانتا، لكن للمركز أيضاً مكاتب تابعة له في العديد من البلدان، ومنها ثلاثة مكاتب في #الشرق_الأوسط. يشرف حالياً على بناء 200 منزل في إطار مشروع "موطن للبشرية" في تكساس. غالباً ما يحمل هو وزوجته المطرقة والمنشار، ويساعدان على بناء منازل للفقراء؛ يعملان بحب وشغف كبيرَين منذ أكثر من ثلاثين عاماً. يمضيان أيام الآحاد في منزلهما المتواضع في بلاينز في ولاية جورجيا، حيث يعطي كارتر دائماً دروساً في مدرسة الأحد. يسافر من بلد إلى آخر رافعاً لواء الديمقراطية وحقوق الإنسان، لا سيما معاناة النساء، وقضية السلام.
يمكننا القول بأن رئاسته الفريدة من نوعها لم تقتصر على أربع سنوات فقط، بل إنها لا تزال مستمرة منذ نحو أربعين عاماً. فضلاً عن تأليفه 28 كتاباً، يدافع، على غرار الحبتور، عن حقوق الفلسطينيين منذ أربعين عاماً.
يوم الثلاثاء الماضي، التقى كارتر أعضاء من "جمعية فاي ألفا الأدبية" التي استضافت المحاضرة التي ألقاها، وقد رحّبوا به عضواً فخرياً في الجمعية، ثم ودّعوه بحفاوة شديدة على وقع نشيد الجمعية الذي صدحت به أصواتهم عالياً جداً حتى إنها كادت تصمّ الآذان. وكان يقف إلى جانب كارتر مع ابتسامة عريضة على وجه خلف الحبتور، عضو "فاي ألفا" الفخري ورجل الأعمال والإحسان الإماراتي الذي سمع النشيد نفسه لدى استقباله عضواً في الجمعية قبل ثلاث سنوات. وكان الرجلان لا يزالان يبتسمان بعد ساعة عندما التقيتهما إلى مأدبة الغداء التي أقامتها باربرا فارلي، رئيسة جامعة إلينوي.
يشبه الحبتور أبراهام لينكولن في جوانب عدّة. لم يتابع تحصيله العلمي، فقد ترك المدرسة بعد الصف السادس ابتدائي. وقد تعلّم بنفسه كيف يكون مهندساً مدنياً ومعمارياً ومتعهّد بناء، كما أنه يرعى ثلاث مؤسسات جديدة للتعليم العالي في دولة الإمارات.
إنه جزء من مجموعة صغيرة من الروّاد - ولعله الأعظم بينهم - الذي ساهموا في بناء مدينة دبي التي تُعتبَر من عجائب العالم الحديث. ففي المكان الذي كان طوال أربعين عاماً عبارة عن مساحات شبه قاحلة من الكثبان الرملية ترتفع الآن أعداد كبيرة من ناطحات السحاب العصرية والبرّاقة التي تضجّ بالنشاط والحركة التجارية. لقد حلّت دبي التي يعيش فيها الآن نحو مليون نسمة، مكان بيروت في المركز الرئيس للنشاط التجاري والمصرفي في #الشرق_الأوسط.
عندما يتوجّه الحبتور إلى مكتبه في الصباح الباكر، غالباً ما يتوقّف لأداء الصلاة في مسجد رائع شيّده قبل ثلاثة أعوام وقدّمه هدية لأبناء دبي. خلال زيارتي إلى المسجد قبل عامَين، ذُهِلت بجماله الآخّاذ الذي لم يقع نظري على ما يضاهيه في أي من المباني التي رأيتها خلال أسفاري الكثيرة.
التقيت الحبتور أول مرة قبل نحو ثلاثين عاماً خلال زيارتي الأولى إلى الإمارات العربية المتحدة. كان مهندساً مدنياً شاباً لكنه كان يملك الفندق الأكبر في دبي. أما الآن فبات يملك أربعة فنادق جديدة في دبي وثمانية فنادق في الخارج، فضلاً عن عشر شركات أخرى. يؤمّن وظائف لآلاف العائلات. إنه من الأثرياء النادرين؛ فهو يستثمر في التعليم وبرامج مكافحة الفقر وجهود السلام. وقد أطلق في جامعة إلينوي مبادرة تربوية بعنوان "سبل السلام" تهدف إلى تعزيز التفاهم المتبادل بين الشرق والغرب. يقدّم البرنامج الذي يحظى بالدعم من كارتر معارف واسعة للأساتذة والطلاب حول تسوية النزاعات. ويشرّفني أن أعلن باعتزاز أن حفيدي الدكتور أندرو فيندلي، الأستاذ في معهد روز-هولمان، هو من وضع المخطط التمهيدي للبرنامج.
تحدّث كل من الحبتور وكارتر في المحاضرة السنوية السابعة عشرة برعاية "جمعية فاي ألفا الأدبية" في جاكسونفيل. وهما ينضمان بذلك إلى أشخاص مثل أبراهام لينكولن ومارك تواين اللذين ألقيا محاضرات وكانا عضوَين فخريين في الجمعية.
دخل الحبتور حياتي انطلاقاً من اهتمامنا المشترك بمحنة الفلسطينيين.
على غرار كارتر، يدافع عن المظلومين في مقالاته وكتبه. لا ينظر أبداً إلى الوراء، بل يتطلّع دائماً إلى الأمام. ولا يستسلم أبداً.