في وسط قاعة هادئة ذات إضاءة خافتة مع تحكُّم بدرجة حرارتها في #جامعة_برمينغهام في إنجلترا، توجد خزانة زجاجية يُعرَض فيها شيء لافت. ماذا يخطر في بالكم عندما تفكّرون في مخطوطة عمرها أكثر من ألف عام؟ ربما تتخيّلون صورة وثيقة متشقّقة وباهتة اللون تتداعى عند الإمساك بها. لكن في هذه الخزانة، يبدو وكأنّ النص القرآني المدوَّن على صفحتَين محفوظتَين جيداً تعودان إلى ما بين عامَي 568 و645 م.، قد جفّ للتو على جلد الحيوان الذي كُتِب عليه.
في يوليو 2015، اكتشفت طالبة الدكتوراه ألبا فيديلي هاتين الصفحتين القديمتين موضوعتَين داخل مخطوطة قرآنية قديمة أخرى، وكانتا تشكّلان جزءاً من 3000 نص ديني أحضرهما ألفونس مينغانا إلى المملكة المتحدة في ثلاثينيات القرن العشرين. في البداية، استنتج مينغانا أن الورقتَين تعودان إلى القرن الثامن أو التاسع. لكن بعد تحديد تاريخهما بواسطة تقنية الكربون المشع (مع نسبة دقّة تصل إلى 95.4%) في أحد المختبرات في جامعة أكسفورد، اكتشف الباحثون أنهما تعودان إلى القرن السادس. ولدى مقارنة الصفحتين القديمتين بالمخطوطة التي وُضِعتا فيها، تبيّن أن الخطّ مختلف إلى حد كبير، ما أثار على الفور انتباه الباحثين.
تقول سوزان ووريل، مديرة المجموعات الخاصة في "مكتبة كادبوري للأبحاث" في #جامعة_برمينغهام: "كان هذا دافعاً لنا في المكتبة كي نتمعّن فيها [المخطوطة] أكثر. بما أن هناك شيئَين منفصلين، اعتبرنا في الواقع أنه من الأفضل أن نفصلهما وننظر إلى كل منهما على حدة".
استنتجت فيديلي، انطلاقاً من معرفتها بالنصوص القديمة، تاريخ المخطوطة، ثم تأكّدت شكوكها من خلال التأريخ بواسطة الكربون المشع، ما يجعلها من أقدم المخطوطات القرآنية في العالم. تعلّق ووريل: "فوجئت عندما وجدت أنها تنطبق على حياة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)". بحسب هذا التأريخ، كُتِبت المخطوطة القرآنية على جلد حيوان كان يعيش إما خلال حقبة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) (الذي يُعتقَد أنه عاش بين عامَي 570 و632 ب.م.) أو على جلد حيوان عاش في مرحلة ما خلال العقدَين اللذين أعقبا وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).
يقول البروفسور ديفيد توماس، أستاذ المسيحية والإسلام، وندير دينشو، أستاذ العلاقات بين الأديان في #جامعة_برمينغهام: "قدّم تحديد تاريخ المخطوطة القرآنية في برمينغهام بواسطة الكربون المشع، نتيجة مذهلة، ويكشف عن واحد من الأسرار الأكثر مفاجأة في المجموعة التي تملكها الجامعة. قد تعيدنا المخطوطة إلى حقبة هي على بعد سنوات قليلة من تأسيس الإسلام".
تحتوي المخطوطة المكتوبة بالحبر بالخط الحجازي (من أقدم أشكال الخط العربي)، على جزء من السورات 18 إلى 20.
تحديد تاريخ المخطوطة بواسطة الكربون المشع
يُحدّد التأريخ بواسطة الكربون المشع (كربون 14) كمية نظائر الكربون 14 في المواد العضوية. يمكن الحصول على هذه النتائج الدقيقة بفضل المعارف العلمية عن عمر النصف لهذا النظير (أي العمر اللازم كي تقل كمية النشاط الإشعاعي إلى النصف). لكن بعض المراقبين انتقدوا طريقة تأريخ المخطوطة، قائلين إنه يجب تحديد تاريخ الحبر.
تشرح ووريل: "اختبار الحبر مختلف عن اختبار المخطوطة؛ وعلى حدّ علمنا، ليست هناك حالياً طريقة موثوثة تضيف معارف جديدة في هذا المجال"، مشيرةً إلى أنه من أجل اختبار الحبر، يجب إتلاف المخطوطة.
تضيف في موضوع الاعتناء بالمخطوطات: "عندما يعتني القيّم بالمخطوطات، يتعامل معها باحترام وحسّ ثقافي عالٍ. إنه مسؤول عن الاعتناء بالمخطوطة، لذلك... يجب أن ينقلها ويتعامل معها بالطريقة المناسبة". ولفتت إلى أنه لم يتم لمس المخطوطة بالأيادي، وأنها معروضة في خزانة زجاجية بعيداً من أي احتكاك جسدي.
رحلة طويلة
قطعت المخطوطة نصف المسافة حول العالم منذ رأت النور. وتشكّل 16 صفحة أخرى يُعتقَد أنها من القرآن نفسه، جزءاً من مجموعة موجودة في المكتبة الوطنية في باريس. تقول ووريل: "إذا وضعناها جنباً إلى جنب، وعند تحليل خط اليد... نرى نقاط التشابه. إذاً مصدر الصفحات الـ16 واضح جداً... يمكننا من خلال ذلك أن نستنتج مصدر هذه المخطوطة الذي نعتقد أنه مصر". في الواقع، يُعتقَد أن مصدر المخطوطة هو جامع عمرو بن العاص، وهو أول مسجد شُيِّد في مصر.
وقد انتقلت المخطوطة من مصر إلى أوروبا، قبل أن يشتريها مينغانا (الذي كان يعمل لدى هاوي الجمع والمحسن إدوارد كادبوري) في هولندا أو بلجيكا. مجموعة مينغانا كبيرة، وتحتوي على العديد من المخطوطات الأخرى الخاصة بأديان مختلفة والتي لم تُدرَس بعد. تقول ووريل: "لقد درس باحثون أمريكيون من جامعة بريغهام يونغ ورق البردي القديم في المجموعة، ووجدوا نصّاً غير معروف مرتبطاً بالنسخة الأولى من المزامير". وتضيف عن المجموعة: "تحتوي على مواد رائعة. وأظن أنها ستكشف عن الكثير من الأشياء المثيرة للاهتمام عند إجراء مزيد من البحوث الأكاديمية حولها".
مع هذا الاكتشاف الذي توصّل إليه الباحثون بعد وقت طويل من شروع مينغانا في تكوين مجموعته، هل ثمة احتمال قوي بأن "كنوزاً" قديمة أخرى تختبئ داخل النصوص؟ تقول فيديلي: "ربما توجد في مكتبات أو مؤسسات أخرى أوراقاً إضافية كانت تشكّل في ما مضى جزءاً من مخطوطة مينغانا نفسها. لا تزال هناك مواد غير مفهرسة، ويمكن أن تكشف عن كنز ما".
عُرِضَت المخطوطة القرآنية في #جامعة_برمينغهام بين الثاني والخامس والعشرين من أكتوبر 2015، وسوف تخضع لاحقاً لمزيد من الدراسات الأكاديمية عبر استخدام برامج معلوماتية مُعَدّة خصيصاً لهذا الغرض.