تعاملت بلدانٌ عدّة بخوف وعدوانية مع فكرة إيواء الأشخاص اليائسين الهاربين من وطنهم بحثاً عن ملاذ في مكان آخر. بيد أن المستشارة الألمانية #أنجيلا_مركل كانت موضع إشادة واسعة بفضل رفضها القاطع للخطاب التصاعدي الحاد النبرة الذي ينم عن تعصّب ضد الآخر. فقد أكّدت: "لن نتساهل مع أولئك الذين يشكّكون في كرامة الآخرين. ولن نتساهل مع أولئك الذين لا يبدون استعداداً للمساعدة، عندما يكون مدّ يد العون إلى الآخرين واجبٌ لأسباب قانونية وإنسانية".
رسالتها الجريئة التي ترفع راية التحدّي في وجه انتشار مشاعر العداء للمهاجرين، متجذّرة بقوّة في البراغماتية السياسية المحنّكة. يعلّق عالم الدين المرموق تيه جيه وينتر، المعروف أيضاً بعبد الحكيم مراد: "تدرك ميركل أنه لأسباب تاريخية، لا تستطيع ألمانيا أن تتعامل بقسوة مع اللاجئين الهاربين من الظلم والقمع".
انطلاقاً من الوعي الشديد لماضي ألمانيا الرهيب، تُجسّد رمزية هذه الخطوة نقلةً نوعيّة بالنسبة إلى بلدٍ لا يزال يُخيِّم عليه شبح الإبادة المظلم. تُقدّم ألمانيا نموذجاً أساسياً نستمدّ منه عِبراً ودروساً لفهم الهمجية التي تعصف بعالمنا اليوم، كما وأنّ العام 2015 يصادف الذكرى السبعين للمحرقة. وقد انتهزت ميركل هذه الفرصة الفريدة لإظهار ألمانيا في صورةٍ جديدة، أرض الأمل والسلام.
يسلّط عبد الحكيم مراد، في مقابلة مع "الشندغة"، الضوء على الظروف الاقتصادية التي تقف خلف احتضان ميركل للاجئين الذين يسعون للحصول على ملاذ آمن: "تدرك ميركل أنه نظراً إلى تدنّي نسبة الولادات في البلاد، الهجرة أساسية لزيادة أعداد السكّان الذين هم في سنّ العمل والحفاظ على الإنتاجية الاقتصادية". تتحلّى ميركل الحريصة على معالجة الوضع الديمغرافي الذي يطرح إشكالية في ألمانيا، بتبصّر فريد من نوعه، وتفكير بعيد المدى، وحنكة سياسية لا تُضاهى، ليس فقط من خلال إعادة تأهيل سمعة ألمانيا وجعلها ملاذاً للجميع، إنما أيضاً عبر معالجة المشكلات التي تتسبّب بها زيادة أعداد السكّان المتقدّمين في السن.
ميركل من الأسماء المرشّحة للفوز بجائزة *نوبل للسلام لعام 2015، ويتناقض نضوجها السياسي تناقضاً شديداً مع نظرائها في الاتحاد الأوروبي الذين يعوّلون إلى حد كبير على سياسة الخوف الحالية لتحقيق مكاسب سياسية في المدى القصير بدلاً من بناء الأمة في المدى الطويل. يقول الصحافي الشهير والخبير في شؤون الشرق الأوسط، تشارلز غلاس: "منحت ميركل أملاً عظيماً لعدد كبير من اللاجئين، وتستطيع بلادها استيعاب أعداد وافرة منهم".
لكن سياسات ميركل في ملف اللاجئين تسبّبت بتراجع شديد في شعبيتها داخل ألمانيا وفي مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي. لا يزال من السابق لأوانه قياس التداعيات، إلا أنه من الملائم أن نستعيد بالذاكرة المحطات التي تجعل من ميركل شخصية ذات رؤية بكل معنى الكلمة بين القادة الأوروبيين: فقد أصبحت عام 2005 أول امرأة وأول سياسية سابقة من ألمانيا الشرقية تتسلّم رئاسة الحكومة في بلادها. وكان تأثيرها على ألمانيا عميقاً جداً إلى درجة أن الجيل الشاب في البلاد يُسمّى "جيل ميركل". وكانت موضع إشادة تنويهاً بمقاربتها الحازمة في وقف العمل بالمنشآت النووية الألمانية إبان كارثة فوكوشيما اليابانية، وحذت بلدان أوروبية أخرى حذوها.
لا يزال الخطاب المعادي للهجرة يكتسب زخماً، مدفوعاً بهاجس البطالة، والأزمات المالية في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي، والمخاوف من الاستيعاب الثقافي. لا بد من أن ميركل كانت على بيّنة من ردود الفعل، لكن ربما تعكس مقاربتها للأمور إدراكاً للحاجة إلى التعامل مع الواقع الجديد لمجتمعٍ معولم.
على الرغم من أن استراتيجية ميركل تستند بوضوح إلى إعادة الابتكار والإنقاذ والفعالية الاقتصادية، يرتدي مفهوم تأمين ملاذ آمن للمظلومين والمحرومين أهمية محورية في التقليد الإسلامي. في الواقع، لهذه المسألة وقعٌ قوي في كل الأديان التوحيدية الكبرى: فخروج موسى من مصر على أيدي الفرعون المتعنّت ووصوله إلى برّ الأمان، جرى تجسيده مراراً وتكراراً في الفنون والأفلام والآداب.
مقاربة الإسلام لقانون اللاجئين موسّعة وغنيّة بالتفاصيل. لعل السبب هو طغيان موضوع الحرمان في المراحل الأولى من تاريخ المنطقة. فبعد الهروب من الاضطهاد من قبائل قريش، أو الهجرة الأولى، أو هجرة أتباع النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى الحبشة، قدّم لهم الملك المسيحي ملاذاً آمناً. على الرغم من مطالبات قبائل قريش بترحيلهم، تمسّك الملك بحمايته لهم، وعاش الضيوف الجدد بسلام إلى جانب مضيفيهم المسيحيين. وكذلك، في القرن 622 ب.م.، غادر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) مكة هرباً ممن كانوا يحاولون قتله، وقد منحه أبناء المدينة المنوّرة الحماية بعد رحلة شاقّة في الصحراء. تُجسّد هذه الأحداث جوهر قانون اللاجئين الإسلامي. لا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن الروزنامة الإسلامية تبدأ من تاريخ هجرة النبي، ما يسلّط الضوء على أهمية هذا الحدث.
إنّ منح اللجوء لطالبيه واجبٌ بغض النظر عن العرق والدين والجنسية، كما يرد في القرآن الكريم:
"وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ". (سورة التوبة: 6)
كانت هذه الآية موضع تطبيق بصورة منتظمة، كما تُبيِّن معاهدة نجران (632) التي حدّدت بوضوح حقوق مسيحيي نجران وحرياتهم. وكذلك سعى دستور المدينة المنوّرة (622) إلى توحيد المجموعات الدينية كافة في إطار مجتمعي واحد. تقديم المساعدة للمعوزين وبناء مجتمع عادل أساسيان في الإسلام. لم تكن المساجد أماكن للعبادة وحسب، بل كانت مفتوحة أيضاً أمام كل من يبحث عن ملاذ. ويُجمع الفقهاء على أنه من واجب المسلمين أن يقدّموا الملاذ للهاربين من الاضطهاد. اليوم، تستضيف البلدان الإسلامية أكثر من خمسين في المئة من اللاجئين في العالم. بيد أن التململ المتزايد إزاء معاناة اللاجئين ولّد حاجة ملحّة إلى إعادة النظر في أهمية مساعدة المعوزين والمحرومين التي تشكّل حكماً ركيزة أساسية في دينٍ قائم على العدالة والتعاطف والرعاية الاجتماعية.
اللاجئون هم ضحايا لا حول لهم ولا قوة في لعبة النفوذ السياسي الدموية في المنطقة، ولا يمكن وضع حد لهذه المأساة البشرية الكبرى إلا عندما يضع النزاع في الشرق الأوسط أوزاره. يشرح تشارلز غلاس: "المشكلة الحقيقية ليست النزوح، بل الحرب التي تتسبّب بالنزوح من سوريا والعراق. بدلاً من المساهمة في تصعيد النزاع، ينبغي على الولايات المتحدة وروسيا العمل على إيجاد حل له".
مع استمرار السجال المرير والمحتدم حول الهجرة، تتمايز أنجيلا ميركل عن المشهد السياسي السائد من خلال دعوتها الواضحة إلى التعاطف مع اللاجئين، فتُذكِّر بذلك المجتمع الدولي بواجباته تجاه الآخرين - في رسالةٍ غالباً ما نفتقدها في عالمنا الرأسمالي القاسي.