أُدرِج خور دبي مؤخراً على لائحة التراث العالمي التي تضعها منظمة اليونسكو، كما أنه موضوع وثائقيٍّ جديد حائز على جائزة. في ما يأتي نلقي نظرة على هذا الجزء الصغير من تاريخ العالم القديم الذي لا يزال كما هو نسبياً على الرغم من تغيّر وجه المدينة
يخترق لسان من المياه الزرقاء منطقة كانت صحراوية وقاحلة من قبل، وتُربَط المراكب الخشبية المتمايلة بعضها ببعض لتفريغ حمولتها. يتميّز خور دبي بمياهه المالحة، وكان طوال عقود بمثابة شريان حياة لمدينة دبي: فهو يؤمّن طرقاً تجارية، وحوضاً ترسو فيه السفن، ويستخدمه سكّان المدينة في الصناعة والتجارة.
يمتدّ الخور على طول 14 كيلومتراً، وهو عبارة عن لسان في الخليج العربي يعبر البر الرئيس في ديرة في الضفة الشرقية للخور، ويتابع طريقه في البر وصولاً إلى محمية الحياة البرية في رأس الخور. وتؤوي الأرض المستنقعية حيث ينتهي الخور ما يزيد عن 20000 طائر مائي من 67 نوعاً، وأكثر من 500 صنف مختلف من النبات والحيوانات. تخوض طيور الفلامنغو الزهرية في المياه وتستقر وتقتات وسط القصب المائي، وتطير من حين لآخر.
في أبريل 2012 أُدرِجت المنطقة على لائحة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) للتراث، والسبب واضح جداً. فعلى الرغم من التغييرات الكثيرة التي شهدتها المدينة في الأعوام الأخيرة، لا يزال الخور وضفافه النابضة بالحركة تحافظ على طابعها نسبياً.
والخور هو دائماً أشبه بخليّة نحل لا تتوقّف الحركة فيها. في مطلع القرن العشرين، كان الغطّاسون ورواد الأعمال الجدد يستخرجون اللآلئ من مياهه الضحلة. ولدى اكتشاف النفط في الإمارات العربية المتحدة في ستينيات القرن العشرين، اكتسب الخور أهمّية متزايدة كصلة وصل مع العالم. وعندما جُرِف الوحل من قعر الخور في العقد نفسه، بات بإمكان السفن الأكبر حجماً عبور المجرى المائي، مما أدّى بدوره إلى زيادة الحركة التجارية في دبي. وبعد عقدَين، لم يتغيّر الكثير.
لا تزال العبّارات تفسها التي كانت تمخر عباب هذه المياه المالحة في مطلع الثمانينيات، تنقل الركّاب والسيّاح والتجّار على السواء من ديرة إلى بور دبي والعكس. ثمن التذكرة درهم واحد فقط، وهو مبلغ زهيد لكل من يقطع هذه المسافة التي تستغرق دقيقتين. يتّسع القارب الصغير لعشرين راكباً كحد أقصى يتوزّعون عند الجانبَين، فيما يقف القبطان في الوسط.
لكن مراكب شراعية أكبر انضمّت مؤخراً إلى هذه العبّارات التي تصدر أزيزاً. هذه القوارب الخشبية المدهشة التي تنقل الحمولة من مختلف أنحاء العالم وترسو في جهة ديرة، هي التي لفتت انتباه الأستاذ تيم كينيدي في الجامعة الأمريكية في الشارقة. يحمل كينيدي شهادتَي بكالوريوس وماجستير في الأفلام، وشهادة ماجستير في هندسة المناظر الطبيعية. وهو يدرّس هندسة المناظر الطبيعية والأفلام والتصوير في الجامعة منذ سبع سنوات.
بعدما التقط سلسلة من الصور البانورامية عن الخور لإجراء دراسة ثقافية عن المناظر الطبيعية، أراد التعمّق أكثر في توثيق الأحواض التي تعجّ بالحركة والنشاط وقرّر إعداد فيلم عن الموضوع.
يروي للشندغة “عدت إلى تجربتي في إخراج الأفلام للتعبير عن روح المكان”، مشيراً إلى أن الفيلم الذي يحمل عنوان The Floating Life of Dubai Creek (الحياة العائمة في خور دبي) يتحدّث عن الكدّ اليومي لعمّال المراكب الشراعية الذين يقومون - بعد تمضية أشهر في البحر - بشحن الحمولة وتفريغها وتنظيمها في خور دبي.
يقول كينيدي “استغرقت وقتاً طويلاً للصعود على متن أحد تلك المراكب بعيداً من الطريق السياحي. أنا من نيويورك، وإذا حاولت فعل ذلك في مدينة نيويورك، يطلبون منك الرحيل. فوجئت كثيراً لأنهم سمحوا لي بالصعود على متنها. وأكثر من ذلك، قدّموا لي الشيشة والشاي [على متن مركب شراعي]. هذا هو كرم الضيافة في الخليج الذي لا يأتي الإعلام على ذكره. كانت مفاجأة سارّة لي”.
بدأ كينيدي العمل على الفيلم في العام 2009 واستغرق تصويره 18 شهراً، فكان يعمل في عطلة نهاية الأسبوع من الصباح الباكر حتى مغيب الشمس. واللافت هو أنه ليس هناك تعليق صوتي في الفيلم. وهو يقول إنه تعمّد ذلك.
يشرح “أردت أن أصنع بورتريه [عن الخور]... كي يعيش المشاهد تجربته الخاصة. قد ترغب في الاستماع إلى سمفونية لبرامز خلال مشاهدته، وأنت لا تريد أن يملي عليك أحد ما يجب سماعه - هذا ما قصدته”.
في الواقع، الأصوات الوحيدة التي تُسمَع في الوثائقي بكامله هي تلاطم الأمواج، والإيقاعات التي يولّدها البحّارة عند تفريغ حمولتهم، ووالد وابنه يُعرّفان عن نفسَيهما أمام الكاميرا.
البحّارة في خور دبي هم في معظمهم من الهند وباكستان وإيران؛ ويقومون بنقل بضائعهم عبر مياه الخليج. غالباً ما يبقون في البحر لأشهر متواصلة، ولذلك من الواضح أن رابطاً يتكوّن في ما بينهم، وتروي وجوههم التي تركت فيها عوامل الطقس آثارها، مئة حكاية وحكاية.
تُربَط المراكب الشراعية الراسية معاً، وأحياناً يصل عددها إلى أربعة فتولّد ممراً باتّجاه البر. وتصطف حمولتها المتنوّعة على ضفة الخور لناحية ديرة، وهي تشمل الليمون المجفّف والبهارات التي تنبعث منها رائحة قويّة وتُرسَل إلى سوق البهارات المجاورة. وتنقل المراكب أيضاً معادن قيّمة وأحجاراً كريمة ومجوهرات محفورة يدوياً تُباع لاحقاً في سوق الذهب التي تقع داخل دبي.
على الرغم من الحر الشديد، غالباً ما تبقى الحمولة على متن المراكب لأسابيع متواصلة، وليس هناك عناصر أمنيون لحمايتها. لكن التجّار يتقيّدون بآداب سلوك معيّنة، وتبقى البضائع مكانها من دون أن يمسّها أحد.
يتطرّق الوثائقي إلى هذه الأمور إلى جانب تفاصيل أخرى في الحياة اليومية في الخور. يشرح كينيدي “يسلّط الوثائقي ومدّته 20 دقيقة الضوء على الهوية الجوهرية لخور دبي اليوم، ويحافظ على قصّته في التسلسل الزمني الدراماتيكي الذي عرفته دبي. لقد أدرجت اليونسكو خور دبي على لائحة التراث العالمي، ويشكّل معلماً أساسياً من معالم تطوّر المدينة: لولا الخور لما وُجِدت دبي”.
لقد تولّى كنيدي تصوير الجزء الأكبر من الوثائقي بنفسه، بيد أن زميله زلانتان فيليوبفيك ساعده في مرحلة ما بعد الإنتاج. وهذه ليست المرّة الأولى التي ينفّذ فيها كينيدي عملاً توثيقياً عن الإمارات العربية المتحدة، فقد سبق له أن عرض صوراً بانورامية عن المدينة في عدد من الصالات في دبي.
لكن وثائقي “الحياة العائمة في خور دبي” مشروع عزيز جداً على قلبه. وقد عُرِض حتى الآن في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا والشرق الأوسط، ونال “جائزة أفضل فيلم” في مهرجان آريس السينمائي في سيراكوز في إيطاليا. إنه يُظهر للعالم جانباً آخر في دبي يشكّل بلا أدنى شك جزءاً لا يتجزأ من المدينة.