الجمعة، 19 أبريل 2024

معاناتهم عارٌ علينا

بقلم خلف أحمد الحبتور

©Humanity slipping away/ Helen Savva

هل يُعقَل أن نسمح في منطقتنا العربية بأن يُضطر إخواننا وأخواتنا #السوريون إلى الهروب إلى مكانٍ حيث هم مرفوضون وغير مرغوب فيهم، وحيث يتعرّضون للإذلال والإهانة؟ كيف يسمح عالمنا العربي الثري الذي أُنعِم عليه بمساحات شاسعة من الأراضي، بأن نُغلق أبوابنا أمام إخوتنا العرب؟ أي صورةٍ يحمله هذا كله عن منطقتنا؟

المشاهد التي تطغى على شاشاتنا قاسية جداً ونكاد نعجز عن تحمّلها. أطفال صغار تجرفهم الأمواج إلى الشاطئ وكأنهم حطام سفينة. مئات يفقدون تحت الأمواج في بحار الموت التي تبتلعهم أو يختنقون في عتمة المراكب. إنهم نساء حوامل وأطفال ومعوّقون جالسون على الكراسي المتحركة مصمّمون على الوصول إلى أرض الميعاد، لكنهم يجدون أن الطريق مغلق أمامهم، فالأسلاك الشائكة والغاز المسيل للدموع وهراوات شرطة مكافحة الشغب تقف أمامهم بالمرصاد.

إنهم ينطلقون وقد تملّكهم الجوع والظمأ وتقرّحت أقدامهم، ولا يحظون سوى بساعات قليلة من النوم في الحقول المكشوفة، ولا يتمكّنون من الاغتسال. يسيرون حاملين أطفالهم الرضّع بين ذراعَيهم، والفتيان مستلقين على أكتاف آبائهم، مدفوعين بالأمل بأن غداً سيكون يوماً أفضل، لأن كل واحدة من خطواتهم المرهقة والمثقلة تساعدهم على الاقتراب أكثر فأكثر من أوروبا - ومن الملاذ الآمن الذي يبحثون عنه.

لكن أحلامهم قد تحولت إلى كوابيس. لقد نجوا من البراميل المتفجّرة، وصمدوا بوجه الهجمات الكيميائية. هربوا من براثن الإرهابيين. ورأوا منازلهم تتحوّل أنقاضاً، ومدنهم تُدمَّر وتصبح مقفرة، ودفنوا أهلهم وأشقّاءهم وأبناءهم. شهدوا على فظاعات لا يمكن لمعظمنا حتى أن يتخيلها.

وعندما تنتهي المحطة الأخيرة من رحلتهم الماراثونية إلى الاتحاد الأوروبي، ولا تبقى أمامهم سوى ساعات قليلة في القطار لبلوغ وجهتهم النهائية، ألمانيا، يرون مستقبلهم ينزلق من بين أيديهم؛ يبدو قريباً جداً إنما في الوقت نفسه بعيد المنال. طُلِب منهم أن يتوقّفوا. لكنهم لا يستسلمون على الرغم من التعب والجوع. يرفضون أن يُساقوا إلى معسكرات اعتقال بائسة كالمجرمين خوفاً من أن يقبعوا هناك لأشهر أو حتى سنوات.

يشعرون بالحر والعطش فيما يزدحم بهم القطار في رحلة تستمر 24 ساعة، لكنهم يرفضون قناني المياه المعبأة التي تقدّمها لهم الشرطة. لن يقبلوا بإذلالهم أو معاملتهم وكأنهم دون البشر. يقولون: "لا قطارات، حسناً لا بأس! سنقطع مسافة الـ130 كيلومتراً سيراً على الأقدام للوصول إلى الحدود النمساوية" - فيبدأ نزوح جماعي للاجئين لم يُشهَد له مثيل في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. يُشعرونني باعتزاز شديد، بدءاً من الصغار الذين يسيرون بعزمٍ وتصميم، ويبتسمون رغم كل شيء وصولاً إلى كبار السن الذين يحافظون على شجاعتهم وقوة عزيمتهم، فهؤلاء مصدر إلهام لنا جميعاً.

بوركت بلدانٌ مثل ألمانيا والسويد وإيسلندا التي فتحت أبوابها لاستقبال هؤلاء اللاجئين، إلا أن هذا الوضع المأسوي ليس من مسؤولية أوروبا. فهؤلاء المساكين هم عرب، مسلمون ومسيحيون على حد السواء. لكن تقاعس القيادات العربية أرغم ليس فقط السوريين، ولكن أيضا العراقيين، على البحث عن الملاذ الآمن في أي مكان يمكن أن يجدوه فيه.

لماذا علينا أن نتوقّع من الاتحاد الأوروبي أن يبادر إلى معالجة العواقب المترتّبة عن الإهمال من جانبنا؟ لم تحرّك أمتنا العربية ساكناً لإنقاذ سوريا من نظام الأسد الإجرامي الذي حوّلت همجيته هذه الأرض التاريخية الجميلة إلى مستنقع للعنف والدمار. نحتاج إلى أجيال وأجيال كي تستعيد سوريا شيئاً من مجدها السابق؛ لقد اختفت إلى الأبد مساجد قديمة وأديرة وكنائس دمّرتها مخلوقات مجنونة تجرؤ على الادّعاء بأنها من المسلمين. والأهم من ذلك، لقد فقدنا إلى الأبد 300 ألف كائن بشري، والرقم مرشّح للتصاعد.

ترى كم من أولئك الأشخاص الذين يمشون بخطوات متثاقلة على إحدى الطرقات السريعة في المجر سيقع نظرهم من جديد على وطنهم الأم؟ تأثّرت كثيراً بالرسالة التي وجّهها فتى صغير كان واقفاً خارج محطة القطار في بودابست. قال إنه لا يريد أن يكون في أوروبا، بل كل ما يريده هو أن يعمل العالم على وضع حد للحرب في بلاده كي يتمكّن من العودة إليها. سمعت كثراً يقولون الأمر نفسه. لكن لا أحد يعيرهم آذاناً صاغية. لا أحد يحرّك ساكناً.

لا يهاجر أولئك الأشخاص لدوافع اقتصادية. وليسوا انتهازيين يريدون أن يعتاشوا من الحسنات التي تتصدّق بها عليهم الدول. إنهم يفرون من الحرب والاضطهاد، ويجب أن تكون حقوقهم مضمونة بموجب إتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بأوضاع اللاجئين التي تمنع التمييز بحق اللاجئين على مستوى العرق أو الدين.

لقد خذلت دول العالم العربي السوريين، وإذا لم يتحرك قادته ويقوموا بما يلزم، لن يتمكّن #السوريون أبداً من مسامحة العرب على تخلّيهم عنهم في وقت الضيق. سيأتي يوم يسألنا فيه أحفادنا، ماذا فعلنا لإنقاذهم؟ بماذا سنجيبهم، ما عدا أننا أرسلنا بعض المال وألقينا حفنة من القنابل؟

جميع من أعرفهم شعروا بغضب شديد لدى رؤية صورة الطفل آيلان كردي، ابن الأعوام الثلاثة، جثة هامدة ووجهه نحو الرمال على أحد الشواطئ التركية. لقد وضع المصير الرهيب لهذا الطفل الملائكي، وجهاً بشرياً على النزاع السوري، وحشدَ الرأي العام الأوروبي لمصلحة اللاجئين.

ترتفع لافتات كُتِب عليها "أهلاً باللاجئين السوريين" وسط الحشود في ملاعب كرة القدم. لقد احتشد الآلاف في فيينا مطلقين هتافات وأناشيد للترحيب باللاجئين. وقدّم عشرة آلاف إيسلندي منازل لاستقبال السوريين. ووقّع أكثر من 260 ألف بريطاني عريضة لمطالبة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بقبول مزيد من اللاجئين. هناك أخيار في أوروبا يهتمّون بمعاناة الآخرين، فلماذا لا يحذو العرب حذوهم؟

لا يجوز أن نقول إنها ليست مشكلتنا. فالله تعالى يرى أعمالنا. لا يسعني سوى أن أناشد القادة العرب – لاسيما قادة مجلس التعاون الخليجي – الاستجابة فوراً لهذه الحالة الطارئة عبر المبادرة أولاً إلى بذل قصارى جهدهم لاستضافة أكبر عدد ممكن من اللاجئين.

والأهم من ذلك، أود أن أحث دول مجلس التعاون الخليجي وحلفاءهم العرب إلى معالجة هذه المشكلة من جذورها. تماماً كما نحارب من أجل تحرير اليمن من الميليشيات التابعة لإيران، علينا أن نستخدم مواردنا كافة لإنقاذ سوريا من رئيسها الهمجي الذي تحرّكه إيران مثل الدمية، والعصابات الأخرى المتعطّشة للدماء.

ماذا حلّ بالنخوة التي كان العرب يتحلّون بها، حيث كانوا يعتنوا برفاه شعبهم ويناضلون من أجل كرامته؟ ليست الأرواح فقط على المحك، بل أيضاً الشرف والنخوة العربية اللتان كانتا في ما مضى القيمة الأهم بالنسبة إلينا.

تعليق
الرجاء المحافظة على تعليقاتك ضمن قواعد الموقع. يرجي العلم انه يتم حذف أي تعليق يحتوي على أي روابط كدعاية لمواقع آخرى. لن يتم عرض البريد الإلكتروني ولكنه مطلوب لتأكيد مشاركتم.
المزيد من المقالات بقلم