الرئيس عمر البشير يتحدت للصحفيين عن الوضح فى دارفور خلال مؤتمر صحفى فى مقر الأمم المتحدة بنيويورك.

يوافق معظمنا على أن المبدأ الذي قامت عليه المحكمة الجنائية الدولية كان مبدأ جيداً. ولا يجادل أحد في أن محكمة ذات سلطة قضائية عالمية تمكنها من محاسبة الحكام والأنظمة والحكومات والجيوش على ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم الإبادة العرقية أينما ارتكبت هي محكمة تستحق الترحيب بها. وكانت المحكمة الجنائية الدولية قد أقرت بموجب معاهدة روما في 1998 من قبل 120 دولة وسط آمال بألا يعود أحد قادراً على النجاة من المحاسبة على أفعاله. وقد مضى أكثر من ثمانية أعوام حتى الآن على تأسيس المحكمة وانطلاق أعمالها، غير أن الرأي السائد اليوم هو أنها فشلت فشلاً ذريعاً في أن تلتزم بروح التفويض الذي تتمتع به.

المؤكد هو أن هذه المحكمة الجنائية تستحق لقب "إفريقية" بدلاً من "دولية". إذ حتى هذا اليوم لم يمثل أمامه سوى أربعة كونغوليين. كما تنظر المحكمة حالياً في "حالات" شهدتها جمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا وجمهورية إفريقيا الوسطى.

ولاحقاً لقرار مجلس الأمن الدولي الذي أقره مؤخراً، أصدرت المحكمة مذكرة جلب دولية بحق الرئيس السوداني عمر حسن البشير بخصوص دارفور. وكانت معارضة مصر والسعودية وقطر قوية لصدور هذه المذكرة. كما طلبت الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي من مجلس الأمن تأجيل القرار سنة واحدة لتوفير فرصة كافية للتوصل إلى تسوية سلمية بالتفاوض. وفيما تعبر فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة عن موقف متشدد إزاء رفض هذا التأجيل، فإن كلاً من الصين وروسيا تؤيده.
 
الأمين العام للأمم المتحدة بانكى مون يلتقى الرئيس عمر البشير فى العاصمة السودانية ، الخرطوم.
 
قوات حفظ السلام الدولية تعتقل الرئيس الليبيرى السابق تشارلز تايلور.

وهذه هي المرة الأولى التي تحاول فيها المحكمة أن تحاكم رئيس دولة على رأس الحكم. إذ أن الرئيس اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش مثل أمام محكمة خاصة تابعة للأمم المتحدة بينما لا يزال الرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور ينتظر مواجهة العدالة أمام محكمة خاصة بسيراليون في لاهاي. ولم يكتب النجاح الفعلي لهاتين المحاكمتين المكلفتين، إذ أن ميلوسوفيتش مات قبل أن تتخذ المحكمة قراراً بشأنه كما أن تايلور ربما يطلق سراحه قريباً لأن المحكمة التي تدار بتبرعات طوعية قد تجد نفسها دون موارد مالية كافية قريباً بما يمنعها من متابعة عملها.

أما المحكمة الجنائية الدولية فقد تعرضت للكثير من الانتقادات المتواصلة حيث يقول منتقدوها إنها محكمة مسيسة وانتقائية ومنحازة. وعلى ما يبدو فإن علينا التصديق بأن الأفارقة وحدهم هم من ارتكبوا جرائم حرب منذ 2002 وحتى الآن! إذ ماذا عن أولئك المسؤولين عن غزو واحتلال العراق وهو ما تسبب بموت ما يزيد عن مليون إنسان؟ وماذا عن قتل إسرائيل لأكثر من 1200 مدني لبناني و1400 من سكان غزة بأسلحة يحرم استخدامها دولياً في المناطق السكنية مثل الفوسفور الأبيض والقنابل العنقودية؟

المشكلة هي أن معظم القوى الكبرى ليست أطرافاً موقعة على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية ولهذا فإن الطريقة الوحيدة لمثولهما أمام المحكمة هي بصدور قرار إحالة من مجلس الأمن الدولي. ولكن هيهات أن يحدث ذلك ما دام معظمهم أعضاء دائمين في مجلس الأمن الدولي وتتمتع بحق النقض فيه. والمفارقة هي أن الولايات المتحدة كانت أقوى الدول الداعية لإنشاء هذه المحكمة قبل قدوم جورج بوش الابن للرئاسة. كما أنه من غير الممكن محاسبة قادة القوى الكبرى مثل روسيا والصين لأنها أيضاً غير موقعة على المعاهدة كما أنها تتمتع بحق النقض في مجلس الأمن الدولي.

ولكن أليس هناك مواطن خلل في مثل هذا السيناريو؟ لنتصور محكمة ما في أي دولة من الدول لا يسمح لها إلا في التعامل مع مجرمين من جنسيات معينة فقط دون غيرهم أو أفراد ممن لا حول لهم ولا قوة تاركة أصحاب السطوة ليفعلوا ما يشاءون دون حسيب أو رقيب. لا ريب في أن مثل هذه المحكمة ستكون فكرة غير قابلة لمجرد التفكير بها، بل ومدعاة للسخرية أيضاً. وهل يمكن لأي كان أن يصف عدالة لا تطبق على الجميع بأنها عادلة؟

رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة ميغيل إسكوتو بروكمان كان واضحاً في تأكيده على ذلك، فقد قال تعليقاً على مذكرة الجلب بحق الرئيس البشير: "لو أردنا أن نطبق العدالة فعلينا أولاً أن نحاكم أولئك الذين ارتكبوا أفظع الجرائم وبينهم جورج بوش الذي قام بأكبر الجرائم في دول أخرى."

وإضافة إلى التجني الضمني في عملية انتقاء المتهمين فإن إدانة الزعماء كما يجادل البعض تزيد الأمور سوءاً بالنسبة للناس ذاتهم الذين تدعي المحكمة الجنائية الدولية أنها تدافع عنهم. وعلى سبيل المثال قرر الرئيس البشير الذي أغضبه القرار الصادر بحقه طرد عدد من منظمات الإغاثة الدولية والمنظمات غير الحكومية الأجنبية التي يعتمد شعب دارفور على ما تقدمه من عون متهماً إياها بالتآمر مع المحكمة الجنائية الدولية.

 
مجلس الأمن  الدولى يقر نقل محاكمة الرئيس الليبيرى السابق تشارلز تايلور الى هولندا.
 
لويس مورينو أوكامبو، المدى العام للمحكمة الجنائية الدولية، يخاطب مجلس الأمن الدولى خلال جلسة تناقش الوضح فى السودان.

وقال البشير للسودانيين الذين التقاهم وهو يجول في أنحاء البلاد إننا سنحارب ضد الاستعمار الجديد وتساءل عما يجعل المحكمة الجنائية الدولية تغض الطرف عن المجرمين الذين قتلوا ملايين من البشر وقال أين هي العدالة، أين هي العدالة الدولية؟
 
ميغيل ديسكوتو بروكمان رئيس الدورة الثالثة والستين للجمعية العامة لأمم المتحدة.

ويشير منتقدو مذكرة الاتهام ضد الرئيس السوداني الذين يقولون إنها عملية سياسية محضة إلى اكتشاف مخزونات هائلة من النفط مؤخراً في غرب السودان والتي حصلت الصين على تراخيص لاستثمار الحصة الأكبر منها وهي التي تشتري اليوم أكثر من ثلثي إنتاج السودان من النفط.

التنمية الاقتصادية في الصين قد أطلقت طلباً يتزايد باستمرار على النفط في البلاد ولهذا سارعت بكين في بناء علاقات مع السودان الغني بالثروة النفطية وهو ما أثار حفيظة منافسيها في الغرب. كما أبرم البلدان عدداً كبيراً من الاتفاقيات الاقتصادية وتقول صحيفة واشنطن بوست إن "الصين اليوم هي أكبر موردي السلاح للسودان."

ولو حاول مجلس الأمن الدولي إصدار قرار بإحالة الرئيس البشير صراحة للمحكمة لكان الاحتمال الأكبر هو أن تعترض الصين عليه بحق النقض. غير أن القرار الدولي رقم 1953 الصادر عام 2005 يطالب السودان بالتعاون الكامل مع المحكمة الدولية قد أعيد نبشه لهذه الغاية بالضبط.

وتخشى الصين من أن مذكرة الاتهام قد تزعزع جهود المصالحة في دارفور وقد عبرت علناً عن معارضتها لها.كما امتدح كين غانغ، المتحدث باسم الخارجية الصينية، العلاقات الثنائية بين البلدين واصفاً إياها بأنها "مثمرة للشعبين وللسلام والاستقرار في المنطقة. والصين ستواصل تطوير هذه العلاقات مع السودان".

وفي حال تمت الإطاحة بالبشير وتسلم الحكم في البلاد زعماء أكثر قرباً من الغرب فلا شك أن مصالح الغرب ستكون مصانة عندها.

وفي واقع الأمر فليس من المحتمل أبداً أن يمثل البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية، إذ كما قال ريتشارد ديكار من منظمة مراقبة حقوق الإنسان فليس لدى المحكمة الجنائية الدولية قوة شرطة تفرض تنفيذ المذكرات التي تصدرها وعليها بالتالي أن تعتمد على تعاون الحكومات معها. صحيح أن المذكرة ستقيد حرية حركة البشير، إلا أنه ليست هناك سوى الأردن وجزر القمر وجيبوتي من الأعضاء في الجامعة العربية التي وقعت معاهدة المحكمة.

في يناير الماضي كتب وزير العدل الفلسطيني علي خشان للمحكمة الجنائية الدولية معترفاً بسلطانها القضائي باعتبار ذلك مقدمة لتحقيق محتمل يتمكن أن تجريه في الجرائم الإسرائيلية في غزة. ولكن مهلاً، فلا داعي لأن تشهقوا من هول المفاجأة! إذ قبل المضي قدماً في مثل هذا الأمر، يجب أن تقرر المحكمة أولاً ما إذا كانت إسرائيل هي القوة المسيطرة في غزة- وفي مثل هذه الحالة يمكن إحالة القضية إليها من قبل مجلس الأمن، وإذا ما كان ممكناً اعتبار السلطة الوطنية الفلسطينية القيادة الرسمية "لدولة".

يقول تشارلز ديكنز في روايته الشهيرة "أوليفر تويست" على لسان بامبل الذي قيل له إن "القانون يفترض أن زوجتك تتصرف وفق توجيهك" فيرد: "إن كان القانون يفترض ذلك فعلاً... فإن القانون حمار." وبالنظر إلى سجل المحكمة الجنائية الدولية حتى الآن، لا أجد أفضل من هذا الوصف للتعبير عن الواقع.
 


 | الصفحة الرئيسية | مجموعة الحبتور | فنادق متروبوليتان | دياموندليس لتأجير السيارات | مدرسة الإمارات الدولية
الملكية الفكرية 2003 محفوظة لمجموعة الحبتور
| جميع الحقوق محفوظة
لايجوز إعادة نشر المقالات والمقتطفات منها والترجمات بأي شكل من الأشكال من دون موافقة مجموعة الحبتور
الموقع من تصميم ومتابعة الهودج للإعلانات ـ دبي هاتف: 2293289